مخيلة القاص الكويتي فيصل الحبيني في ”أبناء الأزمنة الأخيرة“
النشرة الدولية –
في مجموعته القصصية “ أبناء الأزمنة الأخيرة“ والصادرة عن منشورات تكوين، 2018، يرصد الكاتب الكويتي، فيصل الحبيني، أحمالًا زائدة في النفس الإنسانية، في تواقيت ومتغيرات تجعل من الشيء، شيئًا آخر، قابلًا للنسيان، أو للتجمد. لكنه سرعان ما يعود ليمارس سطوته علينا، بالرغم من غربته الطويلة.
يقدم الكاتب الكويتي لغة السرد النقية، وهي ميزة صار من الصعب الإمساك بها، في ظل اللغة التسويقية التي يتبعها الكثيرون، بخلط العمل السردي بلغة التكثيف الشاعرية. هذا درب من الجمال الأصيل أن تعود لغة السرد كأنها ماء ترى ذاتك فيه دون الصور الخيالية المرهقة المصاحبة السرد، كما طرأ حديثًا. ما يعني، أن لغة الحبيني محملة بكلمات سهلة، تفتح أبوابًا على أحاسيس غاية في الالتواء. كما يقول يوسف اليوسف: ”إنه النص الشديد القدرة على الاستيلاء“.
يأخذنا الحبيني في قصصه نحو مشاعر منها المألوف في اليوميات، نمر عن عتباتها قفزًا. كأننا دون قصد نهرب من البلل. لكن الحبيني يسرد في قصصه أحداث البيوت والشوارع والمكتبات، بلغة ما بعد الحداثة، التي تجعل لكل خلية ذاكرة خاصة لها، تسترجع تاريخها كنمط من إعادة دورة الحياة مرة أخرى.
ففي قصة ”الرجل الذي أنجب أباه“ يسلط الضوء على توارث الأسماء من الأجداد إلى الأحفاد ويقول: ”وكأن الأحفاد هم وسيلة الآباء لكي يعودوا مجددًا ويراقبوا ما يفعله أبناؤهم خلسة“. ويستطيع أن ينسج ملحمة فكرية، لمشاعر تتردد كثيرًا لكنه الحبيني آثر أن يذيعها بلغته المتشكلة تحت طرْق الدلالات.
بدا جيدًا كيف يراقب الأديب الكويتي الأهواء الإنسانية المختلفة، تجاه المواقف، إنها العين التي تصنع الفارق، وتكشف الجذر غير مكتفية بالثمار.
فلا يكون الحوار الإنساني؛ إلا ليصنع الخبرة، كاشفًا الكثير من الأوهام الإنسانية الذي يقول عنه الحبيني: ”وهم عميق مؤقت بأنك بدأت تفهم العالم“. وينوّه الكاتب الكويتي إلى مدى التأثر بما تعرضه الحوائط، وكم التقديس الذي يبليه الإنسان للفن معروضًا كان على الحائط أم على الشاشة. ويسرد: ”بعض الجدران أكثر حظًا من غيرها“. والتي قال عنها أفونسو كروش: ”الجدران هياكل الثقافة“.
للمتأمل خط سير، ولابد أن يحمله قطار خياله إلى محطة الزمن، لكن الحبيني كلما التفت للزمن، وهمّ في رصده، يجده ميتًا. فهل يتوقف الزمن دائمًا قبل أن نعرف الحقيقة كاملة؟ يطرح الحبيني مزادًا من الأسئلة الغريبة، وقد استطاع بأفكاره الفلسفية أن يتحكم بالاحتمالات بحيث تتوارد كلها إلى مركز فكرة صغيرة، لكنه وضعها في سياق الأهمية.
وفي قصة ”تعرف أمي الطريق جيدًا“ يلغي الكاتب الكويتي الخط بين الموت والحياة، حين يجلب الأب الميت على مائدة حوار مع الابن. لا يعرف الابن حدود المنطق للأشياء، وخارج تصنيف المتتاليات، يشكك في وجود أبيه بوصفه العائد من الموت، والأب يصر على أنه عائد من الغربة. إنه التشكيك، مثل أن تناقش فكرة ”أن يكون رأس الإنسان يابسًا . فعلها الحبيني بلغة تصدّر الصراع الداخلي لك.
وما بين الجنون والوعي، يقدّم الحبيني ذاتًا تطل على النافذتين، ويقرّب الحس اللاعقلاني القارئ بمد الخيط لانفعالات متراكبة للعيش مع تجربته. وقد اعتمد في ذلك على التنويع في شخصياته، تلك المُشَكّلة بأدوات مختلفة، منها المبني على احترام القانون، ومنها البسيطة التركيب، ومنها المتأملة المجنونة، ويقول: ”يبدأ الجنون حين يكون خيال المرء أقوى منه“. ويشاكس الكاتب الكويتي الذهن الإنساني، بالزبد الذي يقدمه من تقنية الحوار لديه، وصراع المواقف المائل إلى الهدوء ظاهرًا. ويلوّح بعصا الوعي بقوله: ”لاحظت بأن وجه أبي بدأ يصفرّ مع الوقت، ما يعني انه بدأ يفهم ما أقوله“.
وينقلنا فيصل الحبيني من الصراع الذاتي الداخلي، إلى صراع الإنسان مع الآخر، في قصة ”لن يتاخر أبوك كثيرًا“ فكيفما تتجدد المواقف يبدو القانون الإنساني في انتخاب الأقوى هو السائد ويعبر عن ذلك كاتبنا: ”لا نستطيع أن نعبر جميعًا معًا، بعضنا بعض، وعلى أحدنا أن يتخلف ليعبر آخر“. وينجز ملامح الصراع بتنقله الخفيف بين المواقف المختلفة وكأن المواقف تقود عربة المحصول الفكري الإنساني.
ومع الذاكرة يختتم الحبيني، لأنها الراوي، بعد أن يُخفضَ صوت الأباء والأبناء، ليقول: ”إنها أرض تتجرع الماضي في داخلها، إنها الذاكرة التي تضحي رؤية، والجين المسافر أبدًا عبر الأجيال، إنهم الآباء وأزمنتهم السالفة، ودورة الطاقة الكونية، التي لا تنتهي“.
يقول أنسي الحاج: ”من يصنفك، يقتلك“ وما حاول الحبيني أن يفعله، أن يهرب من التصنيف للغته، وشخصياته، وأسلوبه. كما وظهر بأن الكاتب الكويتي يتخذ مكانًا غير عادي ينطلق من خلاله بكتابته، وهو ما أنتج هذا الثراء اللغوي والفكري الناصع.
إن النصوص التي يقدمها الحبيني في مجموعته، تشبه المحارة، فهي دائرية في غموضها، تعيدك لنفس نقطة البدء، ذلك النوع من النصوص الذي يسلبك أكثر من مرة.