«أشاكسُ الأفق بكمنجة»* فوزية شويش السالم
النشرة الدولية –
“أشاكس الأفق بكمنجة” الديوان الثاني للشاعرة المصرية ديمة محمود، وسبقه ديوان “ضفائر الروح”.
بدأت بقراءة بداياتها لأتعرف على ملامح إبداعها الشعري، عموماً لا أحب الكتابة عن الدواوين الشعرية، فالشعر أعمق من الكتابة عنه، وأفضل أن يستمتع القارئ به بعيداً عن قراءة التحليل والنقد والتفسير، حين أهدت إلي الشاعرة دواوينها، فهذا يعني أن أقرأ وأكتب۔
ما لاحظته على الديوان الأول طفح مفردات روح الطبيعة السورية من زهور الفل والياسمين والبنفسج والأقحوان وزهر الليمون والزنابق والأرجوان وأشجار اللوز والبيلسان والزيزفون وأشجار الزيتون والحقول والبيادر والخمائل والطيور والعشب المجزوز وجبل قاسيون، هذا عدا الترانيم المسيحية والأجراس ليوم الأحد وبقية الصور المسيحية، إلى جانب الأوضاع السورية، وعذابات حربها الطويلة، والتهجير، وتساقط الأموات، والشعور بالغربة والاغتراب، والذاكرة المعطوبة بالحنين، كل ما نضح به هذا الديوان يشي بروح كاتبة سورية حتى النخاع لتشبعه بروح المكان، وكل ما حل فيه من سيرة أناسه وأوجاعهم.
لكن فاجأتني الشاعرة بتعريف هويتها أنها مصرية، فما معنى هذا؟ هل هي تشربت بالروح الطبيعة السورية وحياة من فيها لنخاعها حتى تتناسخ معها لتكتبها؟!
“في درج خشبي يده مكسورة/ يتحينُ ليطل بجذوته عن كثب/ ويملأ رئتيه بشهيق يزدحم فيه/ الطيونُ بالبيلسان/ في أكناف زهر الليمون/ لكنه مازال في الجرار يتعتق!”.
الملاحظ على قصائد الديوانين اختفاء ذات الشاعر فهو لا يشي بهوية امرأة أو رجل، شعر مكتوب بعيد عن الذاتية، من روح تقمصت أوجاع وعذابات الناس المستوحدين المهمشين المدهوسين والمعجونين بالألم، شعر غريب بمفرداته ومختلف وبعيد عن الذات الأنثوية إلا فيما ندر، ربما يكشف عنها بثلاث قصائد أو أربع، والباقي شعر ثوري تمردي رافض لكل القيود، ومتحرر من سجن الأفكار، وعامل قطيعة مع ماضيه وعاداته وتقاليده والأفكار البالية، شعرها ليس ذاتياً ولكنه ذوب الذوات الكونية بداخله، شعر لا يبوح بذاتية مشاعره إلا فيما ندر، فذاته ذابت بذات الكون، كما أنه لا يملك خصوصية المكان، فكونها مصرية شعرها لا يعطي القارئ انطباعاته عن الشخصية المصرية، ولا روح مكانها، شعرها ينطبق على أي مكان بالعالم، وإنسانه عالمي. شعر متسائل يطرح أسئلة كونية، فيزيائية قلقة تبحث عن جواب لعبثية مطلقة، لم تخصص لها مشهدا محددا بل هي مسرح تتبدل مشاهده حسب العنف الطارئ. الاختلاف يبدأ من اختيارها للعناوين، وينتقل إلى كل مفاصل القصيدة، ومضمون محتواها، ما يلفت نظرها غريب، وما يحرك روحها تجاه الأشياء أيضا مختلف، فمثلا تدخل في أوردة وردة لتفك أزرار الكون من خلالها لنتعرف على سلوك البشر وحركة المجتمع: “الوردة لا تعترف بالمطلق/ لذا تمارس التناقض مرتين/ حينما تذبل وعودها أخضر على أشدّه/ وحينما تكون بلا رائحة وترفع عقيرتها باللون.
الوردة لا تخضع للمنطق/ بالأمس رأيت ورودا صفراء/ تغلق بتلاتها عند انحسار الضوء وقت المغيب/ بينما ورود جدتي البنفسجية في حديقتها التي كانت يوما/ تتفتح شفاهها ليلا فقط.
لن يتجرأ أحد على اتهام الوردة بخدش الحياء/ ولو بقدر أُنملة/ الوردة تمارس الجنس عند احتشاد الناس في الساحات العامة/ وفي ظل المهرجانات والكرنفالات/ فيلتصق طلع الزهر الذكر بمياسم الزهرة الأنثى/ بينما كل العيون وكاميرات الأبعاد الثلاثية والرباعية/ يمكنها أن تتابع هذا بأدق تفاصيله على الهواء.
الوردة لا تخضع للتميز العنصري/ ولا تعترف بالهويات/ ولا تكيل بمكيالين/ الرائحة واللون في الوردة يصلان في نفس اللحظة بكمال وتساو/ للبيض والسود وللمسالمين والعنيفين/ رغم ارتفاع وتيرة الزحام”. لم أحب أن أسألها عن هويتها برغم وجودها معي على الفيسبوك حتى لا أفسد الانطباع الذي تتركه كتابتها عليّ.
قصيدة الفراشة واحدة من قصائد الديوانين القليلة التي تكشف مشاعرها الذاتية الخاصة: “كفراشة نيئة أُحلق في بيتي/ وقتي الذي أقضيه في المطبخ أقطع بالسكين جزءاً منه للشعر وراء الستارة/ لا يعلم أحدٌ أن ثمة قصيدة انسكبت مني وأنا أغسل الأطباق/ وأن إعصاراً من الكلمات اجتاحني وأنا أطهو البامية/ أحيانا لا أجد تفسيرا لهذا الزخم الذي يعتريني وأنا أشوي السمك/ كالبندول تتردد المقاطع في رأسي/ أريدها كذلك- تتأرجح وتلح/ حتى لا يجلوها بخار القلي ورائحة مساحيق التنظيف/ وقد ألفها في المنشفة كي لا تبللها الرطوبة ريثما تبرد في الثلاجة.
الجريدة الكويتية