مارد الإرث الشفوي العربي يخرج من تحت الرمال.. ”في بلاد الله الواسعة”
النشرة الدولية –
تفتقر المكتبة العربية والأدب العربيّ عمومًا لفرع أدبيّ حساس ومؤثر هو أدب اليافعين أو الناشئة، وقلة من الكتاب يلتفتون لملء هذه الفجوة الفادحة في أدبنا العربي وحتى بيئتنا الثقافية ككلّ.
واتتني هذه الملحوظة المحزنة حين قرأتُ الصفحات الأولى من رواية “في بلاد الله الواسعة” الصادرة عن دار الآداب للكاتبة بسمة الخطيب، والتي أرفقت بإشارتين: “رواية لليافعين”، و”من 13 سنة وما فوق”. وهذا التصنيف الأخير أدقّ لأن الرواية بالفعل لليافعين ومن هم أكبر.
تجري أحداث الرواية في الجزيرة العربية وجوارها، في حقبة زمنية خيالية مرتكزة إلى فترة تاريخية تكاد تكون في العصر العباسي، لأن شخوص الرواية مسلمون، وفيها ذكر لقوافل التجارة بين الهند وبلاد الشام مروراً بنجد والحجاز، كما أن حكاياتها التي تمزج الخيال بالواقع، وترتكز على الموروث الشفويّ العربيّ والشرقي تضعنا في أجواء ألف ليلة وليلة.
تحفل رواية بسمة الخطيب باستخدام ممتع للأمثال الشعبية ابنة بيئتها، التي صرنا نسمّيها اليوم “الخليج”، ولا يعرف الوافدون إلى الخليج معانيها.
هذه الرواية مخزون معرفيّ للأجيال العربية وتصلح لأن تدرج في المناهج التربوية، لأنها تقدّم المعلومة في إطار ممتع ومشوّق.
من ميزات الرواية أنها تطرح تساؤلات عميقة عن الحياة وما فيها، وهذا ليس أمراً غريباً كما يظن البعض، لأن الكتابة للأطفال طالما تبنّت المواضيع العميقة والفلسفية منذ بدايات أدب الطفل إلى اليوم.
كأن النص يعيد الاعتبار للطبيعة في حياة البشر، ويعرف إلى من يتوجه بهذا: جيل المستقبل.
رواية ثرية بالمعلومات تعزّزها الإحاطة الجيّدة بكلّ ما له علاقة بالبيئة البدوية الصحراوية من الطبيعة والمناخ إلى النبات والجغرافيا، والمهن والحرفيين إلى الأسماء المنتقاة بعناية. تبدو وكأنها قاموس صغير يثري مخزون قارئها اللغويّ والمعرفيّ بأسماء البشر (مثل المطوَّعة آمنة، عفرة، سبيكة، إسماعيل وفرسه الصهباء، والغزالة الريم…) وأسماء الشجر وثمارها والمأكولات التقليدية والمعدّات والمستلزمات التي كانت مستخدمة في ذلك الوقت.
يشعر القارئ أنه يقرأ حكاية مشوّقة تفيض بالمفردات المفسَّرة والمشروحة في الهوامش، التي بدورها تضيف إلى معارفنا توثيقاً وتأريخاً.
وتحفل رواية بسمة الخطيب باستخدام ممتع للأمثال الشعبية ابنة بيئتها، التي صرنا نسمّيها اليوم “الخليج”، ولا يعرف الوافدون إلى الخليج معانيها، وربما الأجيال الجديدة من أبناء المنطقة أيضاً. لذلك يمكن وضعها في الإطار التوثيقي الإنتروبولوجي لاستخدامها الأمثال والحكم والحكايات الشعبية في إطارٍ قصصيّ ممتع، وفي حبكة محكمة دمجت مجموعة من حكايات الموروث الشفوي العربي.
وكلما سار القارئ مع شخوص الرواية في دروبهم وتتبّع تفاصيل حياتهم بأحداثها وعقباتها يشعر بضرورة توسيع الاستفادة من هذا النصّ الغني وتعميمه. وأخصّ من جهة المهتمّين بالتراث الأدبيّ والرواية ولديهم الحرص والاعتزاز بإرث بلادهم وبيئتهم بأن يسعوا إلى ترجمة “في بلاد الله الواسعة” لكي تكون مرجعاً للراغب في التعرف على البيئة العربية في صحرائها وبواديها وصور الحياة فيها.
ومن جهة ثانية، لا شك بأنها مخزون معرفيّ للأجيال العربية وتصلح لأن تدرج في المناهج التربوية، لأنها تقدّم المعلومة في إطار ممتع ومشوّق؛ فهي مادة تعليمية بامتياز وتعني بالتأكيد مكتبات المدارس وأقسام مصادر التعليم والمربين الذين يدعمون طرق التعليم غير التقليدية والتلقينية.
من ميزات الرواية أنها تطرح تساؤلات عميقة عن الحياة وما فيها، وهذا ليس أمراً غريباً كما يظن البعض، لأن الكتابة للأطفال طالما تبنّت المواضيع العميقة والفلسفية منذ بدايات أدب الطفل إلى اليوم. ولعلّ أجمل ما يطالعنا فيها هو عالم التأمّل في الطبيعة وكشف أسرارها ومعانيها، من دون تلقين أو توجيه أو درس مباشر، بل يتسلّل بين الأحداث وبين حوارات الشخصيات، كما في الحديث عن الصبر والاستماع إلى الصمت… ومن الأمثلة هنا أورد عبارة “يبقى ظلّك في الآخرين” التي تتبناها الفلسفة الهندية والتأمل للوصول إلى الجوهر، وعبارة “ما تمضي نحوه سيقطع نص المسافة نحوك” التي تلاقي الفكرة الصوفية “ما تبحث عنه يبحث عنك”.
يسطع تمجيد الطبيعة بوضوح في رواية بسمة الخطيب، بل بالتحديد تمجيد الصحراء ومديحها وعشقها. نلمس قوّتها في الوقت الذي نراها من حولنا تنهار وسط تدمير البشر لطبيعتهم وثروات الأرض وخيراتها. كأن النص يعيد الاعتبار للطبيعة في حياة البشر، ويعرف إلى من يتوجه بهذا: جيل المستقبل. ففي رحلة إسماعيل في بلاد الله يقول له حادي العيس الضرير: “فكّر في الطريق وهي تعود وحيدة بعد أن توصل المسافرين إلى مقاصدهم ولا تثير حنينهم”.
تلك دعوة بين الكثير من الدعوات المؤثرة الأخرى لكلّ فتاة وفتى، ولكلّ حلقة أسرية أو تربوية يهمّها أن يعرف أبناؤنا تاريخهم، ليحافظوا على غدهم.
رصيف 22 – سهى عيان –