المعنى الحقيقي للوجود* لمياء المقدم
النشرة الدولية –
لو استطعت أن أصف المعنى الحقيقي للوجود، فإنني سأقول إنه في قراءة الكتب. قد يبدو هذا التلخيص أقل من أن يكون جادا، ولكن تعالوا لنستعرض أهم ما تدور حوله حياتنا ونرى ما الذي يجعلنا نشعر بأننا نستحق الحياة التي نحياها، ولماذا نحياها.
بعضنا يجد أن امتداده في الآخر هو ما يجعله موجودا، فنحن لا شيء إذا لم نترك أثرا لدى الآخرين؛ انطباعا ما، حلما، لحظة تفكير، كلمة أو حبا، أي أننا نحيا خارجنا، وكلما تمكنا من الذهاب أبعد في أنفس وحيوات الآخرين صار لوجودنا امتدادا وثقلا. ثم نكتشف فجأة أن الآخرين مجرد ظلال ليس أكثر، فهم أيضا يحيون خارجهم ويمتدون في الآخرين ووجودهم هش؛ ظلال تتقاطع هنا وهناك، ولا شيء حقيقي، لا شيء ثابت.
ثم هناك بالطبع من يحبون أن ينجبوا أطفالا ليروا أنفسهم فيهم ويستمروا داخلهم، فتجدهم فرحين بإعادة إنتاج أنفسهم في أدق تفاصيلها، دون مراعاة عامل الزمن الذي لا يقبل النسخة الواحدة مرتين، فهو كالنهر الذي يجري بلا توقف والذي لا يمكن أن تشرب منه مرتين.
هواة نسخ أنفسهم يصرون على تلقين أبنائهم قناعاتهم، ويربونهم بنفس الطريقة التي تربوا عليها، شاحنين إياهم بنفس المعارف والسلوكيات التي درجوا عليها، وكأن الزمن واقف لا يتحرك. يفعلون ذلك بأنانية مفرطة، وبعناد وإصرار على أنهم النموذج الأمثل وما عدا ذلك نسخ وتقليد، إذ “ليس بالإمكان أفضل مما كان”، غير مدركين أن الابن الذي لا يتجاوز والده يتخلف عنه، فإذا كان الأب قد عاش زمنه وفق معطياته الخارجية متناسقا معه ومع أفكاره فإن الابن يعيش زمنه وهو في جلباب أبيه. أي أنه يعيش زمنا سابقا له. ومهما ادّعينا، بنوستالجيا مثالية، من أن الأزمنة السابقة أفضل من لاحقاتها إلا أن هذا ليس مبررا على الإطلاق لجعل الأبناء يعيشون زمنا غير زمنهم.
البعض الآخر يهمه أن يفكر، ويعتبر ذلك معنى وهدفا في حد ذاته من الوجود. أو كما قال ديكارت “أنا أفكر فأنا موجود”، وطالما أن الإنسان يفكر فإن العالم يعيد إنتاج نفسه في أفكار لا متناهية ويتحول الوجود برمته إلى فكرة، والإنسان إلى خالق، باعتباره صاحب الفكرة.
أحب الكتب لأنها معبأة بأفكار، أو بخلق متجدد للكون وللإنسان. وفي كل مرة أقرأ كتابا جديدا اكتشف الحياة من زاوية أخرى. أَجِد أن فكرتي عن الكون وعن نفسي منقوصة، وأن أفكارا أخرى هنا وهناك تكملها، تدعمها أو تنفيها. في الكتب نلتقي بخالقين جدد في كل مرة، نصافحهم ونجلس لنتعرف منهم على أفكارهم عن الوجود، الإنسان، الحياة، الكون، الحب، الموت، الصداقة، وفي كل مرة نكتشف سياقا جديدا للحياة، وهو سياق افتراضي لما يمكن أن تكون عليه حياتنا نحن، لو أننا عشناها بشكل مختلف. نجد البدائل الأخرى؛ الوجوه الأخرى لحياة لم نحياها في الواقع.
ودائما أتساءل: من قال إن هذه الحياة التي نحياها في الواقع، ليست مجرد فرضية لما يمكن أن تكون عليه الحياة حقا. فرضية لا تثبت صحتها ولا خطأها أبدا.
نستحق وجودنا عندما ندرك أنه جزء من فكرة، وأننا نسد ثغرة ما، ونملأ فراغا معينا في جزئية بسيطة من هذه الفكرة. فإذا اختفينا تركنا فراغا مفتوحا على كل الاحتمالات، ليس بوسع غيرنا أن يملأه.
ونحن لا ندرك الثغرة التي نملأها ولا نتمثلها إلا إذا تمثلنا السياق العام للوجود، كل الأفكار، الحيوات الافتراضية الأخرى التي تضمها الكتب.
العرب اللندنية