آخر الحروب اللبنانية تحت عنوان فلسطين
بقلم: طوني فرنسيس

اتفاق وقف إطلاق النار يعيد السلاح إلى إمرة السلطات الشرعية بدءاً بالجيش إلى الشرطة البلدية

النشرة الدولية –

استغرق الهجوم الإسرائيلي على لبنان عام 1982 نحو ثلاثة أشهر وانتهى إلى إخراج منظمة التحرير الفلسطينية ورئيسها ياسر عرفات من بيروت. وبعد 48 عاماً من تلك التجربة عادت إسرائيل لخوض حرب جديدة ضد “حزب الله” المصنف ذراعاً إيراني، وفرض اتفاق لوقف إطلاق النار لا يعني ترحيلاً للحزب إلى خارج البلاد، فهو حزب لبناني في أعضائه وقيادته، بل يهدف إلى نزع سلاحه ومنعه من أن يشكل تهديداً جاثماً على الحدود الشمالية يلبي حاجات سلطة الملالي في طهران إلى توترات تسهل مفاوضات مع الغرب أو تعقدها.

بالتأكيد ليست “لبننة” الحزب هي ما كان يشغل القيادة الإسرائيلية. اللبننة كانت دائماً مطلباً لبنانياً طرحه خصوم الحزب ومنتقدو سياساته في جعل لبنان منصة إيرانية مفتوحة على التدمير الإسرائيلي. وهو لم يستجِب يوماً لتلك المطالب “الأخوية”، بل واصل خططه للهيمنة على قرار الدولة وشل مؤسساتها. بدأ ذلك فور الانسحاب الإسرائيلي ف عام 2000 وبلغ ذروته خصوصاً مع شن الحزب “حرب تموز” عام 2006 التي انتهت بإقرار مجلس الأمن الدولي صيغة القرار 1701 الذي أمر بالانسحاب الإسرائيلي من الجنوب وتولي الجيش اللبناني تعاونه قوات الأمم المتحدة، مهمات الأمن في هذه المنطقة ومنع أي وجود مسلح فيها تمهيداً لحل جميع الميليشيات على كل الأراضي اللبنانية وحصر السلاح بيد السلطة الشرعية.

كان القرار الدولي يحتاج إلى وجود سلطة سياسية شرعية تنفذ القرار وتحمي الجيش اللبناني لتنفيذ مهماته على الأرض، إلا أن سلوك “حزب الله” ابتداءً من مطلع عام 2007 سار في طريق ثابت نحو شل الحكومة ومنعها من العمل ثم محاصرتها في الشارع، في اعتصام انتهى باجتياح بيروت وعدد من المناطق، مما أدى إلى محاصرة الجيش وإجباره في مواقع عدة على تنفيذ أوامر الميليشيات، ووضع البلاد على حافة حرب أهلية مفتوحة. كان ذلك المسار الذي اتبعه “حزب الله” كفيلاً بإنهاء سلطة الدولة ومنعها من تنفيذ التزاماتها الدولية والمحلية، وقاد في النهاية إلى سلسلة الانهيارات الاقتصادية والمالية والأمنية، في بلد يعجز بسبب الميليشيات إياها عن انتخاب رئيس للجمهورية أو تشكيل حكومة إذا لم يكُن ذلك الانتخاب استجابة لقرار إيران ووكيلها المحلي.

عندما بدأ الحزب معركته لإسناد حركة “حماس” في غزة، لم يكُن أي بند من بنود القرار 1701 تم تنفيذه من الجانب اللبناني. وإسرائيل بدورها بدت مرتاحة لهذا السلوك. فهي طوال الحقبة التي أعقبت “حرب تموز”، واصلت خروقها للسيادة اللبنانية، وبدا أنها خصصت ذلك الوقت للقيام بعمليات الاستطلاع وتجميع المعلومات عما يجري في لبنان، مما ظهرت نتائجه لاحقاً في الاستهداف المنهجي لـ”حزب الله” قيادة وكوادر.

عندما ذهب “حزب الله” إلى حربه تحت عنوان “مساندة غزة” لم يسأل عن موقف الدولة لأنه اختصرها بنفسه، ولم يستشِر الجيش ولا الشعب على رغم تكراره التمسك بالشعار الذائع الصيت عن “ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة”.

ولم يقتنع الحزب بوقف حربه على الحدود الإسرائيلية والعودة لتنفيذ القرارات الدولية قبل الانفجار الكبير وبدء الرد الإسرائيلي المدمر. ولم يستمع إلى اللبنانيين الآخرين في الحكومة وخارجها، كما أنه لم يستجِب لدعوات الموفدين الدوليين وفي مقدمتهم الأميركي آموس هوكشتاين الذي سينجح في النهاية في إنجاز إجراءات اتفاق لتنفيذ القرار 1701 بموافقة الحزب نفسه، ولكن بعد خراب البصرة اللبنانية وسقوط أربعة آلاف قتيل و15 ألف جريح وعشرات آلاف المنازل المدمرة وخسائر بمليارات الدولارات وإلحاق ضرر قاتل بالتنظيم الذي فقد قادته الأساسيين والمئات من عناصره.

أقر الاتفاق الذي وافق عليه “حزب الله” متأخراً ومضطراً، نزع السلاح في الجنوب أولاً وفي لبنان كله ثانياً، وصولاً إلى حصره بأجهزة الدولة، الجيش وقوى الأمن الداخلي والأمن العام وأمن الدولة والجمارك… والشرطة البلدية.

لا انتصار في الاتفاق الذي أقره “حزب الله”، على رغم تكرار نوابه وأمينه العام الجديد نعيم قاسم والراعي الإيراني، الحديث المعتاد عن الانتصارات. فالحزب الذي تأسس وقام على أدبيات المقاومة والسلاح والصواريخ، وعلى كونه ركناً في محور الممانعة الذي تقوده طهران، ها هو يصبح الركن الثاني في “المحور” بعد “حماس” في غزة، ويضطر إلى الخروج من المعركة التي تمتنع إيران عن خوضها، مما ينسف نظرية وحدة الساحات ويكشف عن حقيقة الموقف الإيراني المراوغ في استعمالاته الهادفة للأذرع التي بناها ومولها طوال عقود في أنحاء المشرق العربي.

في صيغة الاتفاق الذي يستند أساساً إلى ورقة إسرائيلية – أميركية، حصلت إسرائيل على آلية تنفيذ تريحها، لكن الأهم من الآلية في نظرها هو “التفاهمات الجانبية مع الولايات المتحدة التي تضمن أن تقدم لها الدعم الاستراتيجي وشبكة الأمان السياسية في الساحة الدولية، إضافة إلى ضمانات في شأن تقديم مساعدة من أجل التسلح الدفاعي والهجومي عندما تحتاج إسرائيل إلى العمل في لبنان لفرض الاتفاق”.

والاتفاق إذ يكرس الانفصال بين جبهتي غزة ولبنان التي جعلها الحزب ركيزة ومبرراً لحربه، يفتح الباب، كما جاء على لسان راعيه الأميركي الرئيس جو بايدن، ومعه ضمناً الرئيس المنتخب دونالد ترمب، أمام التركيز على إيران. ويقول رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية السابق (أمان) عاموس يادلين في مقالة مشتركة مع الباحث الإسرائيلي أودي أفينتال إن الاتفاق إذ يمنح إسرائيل وضعاً استراتيجياً أفضل، فإن “زوال استعمال ’حزب الله‘ من جانب إيران، يسمح لإسرائيل بتنظيف الطاولة تحضيراً لدخول الرئيس ترمب إلى البيت الأبيض”. ويضيف الكاتبان “سيكون على إسرائيل أن تذكر ترمب بأنه من دون تهديد عسكري أميركي- إسرائيلي حقيقي، والاستعداد لاستعماله، فإن الضغوط الاقتصادية على طهران لن تكون مجدية”.

قد تكون حرب “حزب الله” المنتهية مع اتفاق هوكشتاين، الحرب “اللبنانية” الأخيرة في سلسلة الحروب التي خيضت من لبنان وعلى أرضه تحت عنوان الدفاع عن فلسطين، مثلها مثل حرب غزة التي خيضت باسم فلسطين ولمصلحة المحور والتي قد تكون تجربة أخيرة من نوعها في مسلسل المواجهات الفلسطينية- الإسرائيلية منذ انطلاقة العمل الفلسطيني المسلح بصيغته الحديثة. الحروب المماثلة المقبلة قد لا تحصل، من دون أن يعني ذلك نهاية القضية الفلسطينية التي ستنتظر وسائل أخرى لمعالجتها.

في نهاية غزو لبنان عام 1982 وبعد الاتفاق على خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، سئل عرفات، الآن إلى أين يا أبو عمار؟ فأجاب إلى فلسطين. اليوم أيضاً يجدر أن يكون جواب “حزب الله” على سؤال مماثل، إلى الدخول في لبنان والعمل السياسي الطبيعي من ضمن مؤسساته الدستورية الشرعية ووقف مغامرات لم تأتِ سوى بالكوارث على شعب لبناني يحاول النهوض من أزمات يكاد يبلغ عمرها نصف قرن.

زر الذهاب إلى الأعلى