11 يوما هزت الشرق العربي
بقلم: طوني فرنسيس
النشرة الدولية –
عندما خرج الثلاثي روسيا وإيران وتركيا على الإجماع الدولي في شأن معالجة الأزمة السورية، زادت هذه الأزمة تعقيداً وبدلاً من السير في مفاوضات جنيف تحت سقف تنفيذ القرار الدولي 2254، ذهبت الأمور إلى تحت سقف أستانا.
ارتاح الثلاثي إلى هذا المنحى، وخرج من تحت عباءة مجلس الأمن و”الهيمنة الغربية” عليه وافتتح مسلكاً جديداً اعتقدت روسيا بأنها تقوده في مواجهة الأحادية القطبية. كانت منصة أستانا بالنسبة إليها شكلاً من أشكال العمل على قيام تعددية قطبية عالمية تحاصر وتنهي الأحادية الغربية الأميركية، مثلها مثل مشروع مجموعة دول “بريكس” أو منظمة “شنغهاي” للأمن والتعاون، لكن الخلل فيها تركيبة وأهدافاً كان أعمق بكثير والخلافات بين أعضائها الثلاثة يصعب جسرها لمجرد القول إنهم يلتقون على شعار مواجهة أميركا والغرب، هذا الشعار الذي يلغي حقائق من نوع حق الشعب السوري في الحرية والتغيير وحق الشعب الفلسطيني في السلام واللبناني في استعادة دولته.
كانت خطة تقسيم سوريا إلى مناطق لخفض التصعيد هي أهم ما أنتجته لقاءات أستانا، وبمقتضى تلك الخطة باتت سوريا موزعة بين مناطق بوتين- أردوغان في إدلب ومحيطها ومناطق بوتين- خامنئي في الوسط حول دمشق ثم بوتين في الساحل حول قاعدتي طرطوس وحميميم وأخيراً على حدود الجولان المحتل، وخامنئي على طريق طهران- بغداد- دمشق.
أمضى أطراف الثلاثي أعواماً يختبئون حول تقسيماتهم السورية فيما كان السوريون يوغلون في مآسيهم وهجراتهم من دون بارقة أمل في تغيير مقبل. وكانت أميركا تحافظ في الأثناء على سيطرتها في مناطق النفط بالتعاون مع قوات سوريا الديمقراطية، معلنة مواصفاتها حرباً احترافية ضد عودة تنظيم “داعش” ومتمسكة بعنوان مجلس الأمن للحل في سوريا. وهي تعرضت في المقابل لانتقادات الثلاثي بوصفها قوات احتلال لم تتمتع بطلب دخول شرعي من بشار الأسد رئيس الدولة المخلعة.
لم تتقدم سوريا طوال هذا الوقت بوصة واحدة نحو الحل السياسي، وبقي نصف سكانها مشرداً في الداخل والخارج وممنوعاً من العودة، وصارت عودته جزءاً من مقايضات النظام على تثبيته واستمراره إلى الأبد، لا حقاً إنسانياً طبيعياً ومشروعاً. والرئيس السوري لم يقُم بخطوة مصالحة واحدة حقيقية على رغم الاحتضان العربي في محاولة لإخراجه من المشروع الخامنئي العبثي الدموي ومن المسارات المفتعلة خارج نطاق الشرعيتين العربية والدولية.
في الأثناء، لم تبذل روسيا جهداً لتحويل مناطق خفض التصعيد إلى نموذج لاحتواء التوتر ودفع هذه المناطق والقوى المسيطرة فيها نحو البدء بعملية سياسية جدية. ومن جهتها مضت إيران في وهم ترسيخ سيطرتها على سوريا باعتبارها المحافظة الإيرانية الـ35 وجسرها نحو المتوسط، حيث “جيشها اللبناني” “حزب الله” الذي سيقيم لها متراساً صاروخياً لا يقهر في وجه إسرائيل، وبه وبالممر السوري ستحقق حلمها المعلن في طرد الأميركيين والإسرائيليين وأعوانهم من “غرب آسيا”.
نسي الروس والإيرانيون جوهر مهمتهم المعلنة في سوريا وهو العمل لحل المشكلة السياسية والحفاظ على الدولة السورية الموحدة ذات السيادة الكاملة، وارتاحوا إلى نقاشاتهم في أستانا ودخلوا في البحث عن توطيد تحالفاتهم الاستراتيجية، وصارت سوريا والمشرق بالنسبة إليهم جزءاً من ساحة المعركة العالمية، فيها تحضر روسيا لتعزيز معركتها الأوكرانية وتتحرك إيران لحماية نظامها وضمان مستقبل الملالي وحكمهم تفاوضاً وحرباً بدماء الأتباع، مع وضد أميركا وحلفائها.
الفصل الأساسي من هذه الحرب حصل فعلاً وكانت نتائجه كارثية، ولقد جربت إيران قدراتها في غزة ولبنان، ففي القطاع انتهت المعركة التي رعتها وشجعتها إلى دمار شامل، وفي لبنان حصدت مقتلة مروعة، وفرضت إسرائيل التسوية التي أرادتها على “حزب الله”، وهي في طريقها للبحث عن أمر مماثل في غزة على رغم اختلاف الظروف.
لم يكُن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، شريك روسيا وإيران في رعاية الشأن السوري، غائباً عن سماع معنى التطورات الحاصلة، وعلى رغم ما قيل عن تلاعبه بعواطف الفلسطينيين والمسلمين فإنه دخل في حملة دعم سياسية وإعلامية لغزة قادته إلى التصادم مع إيران.
وفي الصحافة التركية، قرأنا كثيراً من التشكيك بالنوايا الإيرانية وشهدنا على اتهامات بالمسؤولية عن اغتيال إسماعيل هنية، وكتب كثيرون مستعيدين تاريخ صراعات الصفويين مع السلطنة العثمانية .
ولم يقصّر الإيرانيون في التشكيك بنوايا “شركائهم” الأتراك، فتحدثوا عن علاقتهم بإسرائيل وعضويتهم في حلف شمال الأطلسي وطموحاتهم القوقازية، ثم ذهبوا إلى حد اتهامهم بالتآمر ضدهم مع روسيا في تبنيهم الممر الأذربيجاني التركي عبر زنزغور في أرمينيا.
المشكلة الإيرانية- التركية تخطت دبلوماسية عباس عراقجي وهاكان فيدان اللذين سارا على خطين متوازيين لا يلتقيان خلال بحثهما أخيراً في القضية السورية بعد سقوط حلب. ولخص علي لاريجاني مستشار علي خامنئي الخلاف بفصاحة إيرانية نادرة، إذ حمّل أنقرة مسؤولية دفع المعارضة السورية المسلحة إلى شن هجومها الشامل بإيحاء أميركي وإسرائيلي، إلى ما هناك من تفسيرات في القاموس الإيراني الذي كان سارع إلى اعتبار هجوم المعارضة السورية رداً تآمرياً على هزيمة إسرائيل في غزة ولبنان.
لكن تركيا أردوغان، على النقيض من إيران خامنئي، كانت سباقة في دعوة الأسد إلى الحوار، والرئيس التركي كرر منذ أشهر دعوته الرئيس السوري إلى الدخول في عملية سياسية ولقاءات مباشرة تنهي قطيعة طويلة، ولم يستجِب الأسد على رغم ما قيل عن تشجيع ونصائح روسية وجهت إليه للسير في المقترحات التركية .
كان الوضع السوري في حال انسداد تام لدى بدء المعارضة المسلحة المدعومة من تركيا عملياتها الناجحة، فلا حركة سياسية من جانب النظام ولا فاعلية لمنصة أستانا والانشغال الروسي بمصير معركة أوكرانيا في مقدمة اهتمامات موسكو، خصوصاً مع قرب تولي الرئيس دونالد ترمب مهماته. وبات المسرح مهيأ تماماً لنقلة ما يصعب القول إنها لم تكُن متوقعة من جانب الثلاثي والحكم السوري.
لقد لاحت أمام المعارضين المسلحين والمدربين جيداً فرصة لإحداث تغيير طال انتظاره، وهم بدأوا ذلك وسط تعاطف أو تواطؤ خارجي لا يستهان به عدا الدعم التركي الواضح والصريح. والهدف البارز لهجوم المعارضة الإطاحة بالنظام ورموزه وطرد حماته من الإيرانيين وميليشياتهم. وهم اختاروا توقيتاً لبدء معركتهم لا بد من أن يلفت الأنظار. ففي لحظة فرض المشروع الأميركي- الإسرائيلي لوقف النار في لبنان وبدء إنهاء الوجود العسكري لـ”حزب الله”، انطلقت الفصائل المسلحة شمال سوريا إلى الاستيلاء على حلب ومنها جنوباً إلى حماة وحمص فإلى دمشق، كما حدد وتنبأ أردوغان.
ومنذ لحظة التقدم الأولى إلى حلب اتضح أن لحرب سوريا أكثر من هدف واحد “أنها ليست معركة على مستقبل سوريا فقط، بل هي أيضاً معركة على مستقبل إيران في الشرق الأوسط”، ووعت إيران أخيراً حقيقة الأمر، وروسيا أبدت عدم حماسة لكمين شرق أوسطي محتمل، فلم تعُد تهمها كثيراً استعادة حلب كما فعلت قبل أعوام، وإنما تعنيها كيفية الاستفادة من دروس حلب لئلا تتكرر في أوكرانيا.
خلال الاجتماع الأخير لثلاثي أستانا في الدوحة، تحدث الإيرانيون من موقع العاجز وراقب الأتراك من موقع الواثق بالوصول إلى دمشق وخرج الروس على لسان وزير خارجيتهم سيرغي لافروف بنظرية العودة للحوار من دون “الإرهابيين” الذين قاموا بكل ما شهدته سوريا من تغييرات على الأرض خلال 11 يوماً فقط.
ثم جاء تصريح ترمب معلناً “دعوا السوريين وشأنهم”، لينهي موسم الفذلكات الكلامية ومعها ثلاثي أستانا ونظام الأسد وحلم إيران بمياه المتوسط.