انتخابات تونس.. مقاطعة شعبية وصراع مواقع وليس برامج* مختار الدبابي

النشرة الدولية –

لا تحمل المؤشرات أملا في تغيير المشهد السياسي في تونس بعد ثماني سنوات من الثورة، وعلى العكس يتجه الوضع إلى المزيد من الارتباك، حتى في أهم العناصر التي تحققت، ونعني هنا التجربة السياسية التي لا تزال هشة ومتغيرة وسط صراعات حامية على التموقع في السلطة وحتى داخل الأحزاب.

كان المتوقع أن تكون هذه الفترة كافية لتكوين تكتلات أو توجهات حزبية كبرى تعكس تنوع المشاريع والمشارب السياسية والفكرية، لكن هذا لم يحصل بشكل كلي، إذ أن التكتلات التي اتضحت معالمها في انتخابات 2014 مثلا تراجعت واختلطت بشكل لم يبق في الواجهة سوى حركة النهضة.

والنهضة فقدت بدورها المجموعات المساندة التي تمثل فناءها الخلفي الافتراضي في حالة التحالف البرلماني مثل حزب الرئيس السابق المنصف المرزوقي، وقد غيّر الحزب اسمه مرارا وخرجت عنه مجموعات وغيرت أسماءها ووجوهها بحيث لم يعد المتابع الدقيق يميز بينها.

لقد جاءت انتخابات الإعادة في بلدية باردو المهمة لتقدم صورة صارخة عن اتجاهات الرأي العام الانتخابي، إذ لم تتجاوز نسبة المشاركة 12 بالمئة، في منطقة تتميز بالثقل السياسي، وهو ما يدفع إلى تشاؤم واسع بشأن نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية والرئاسية.

وإلى الآن تتهرب الأحزاب والمجموعات الصغيرة التي تستعد للانتخابات من الإجابة عن سؤال: لماذا تتراجع نسب المشاركة وترتفع نسب المقاطعة؟ وطالما أن الإجابة مؤجلة، فإن لا أحد سيعرف حجم تدني هذه النسب في المواعيد القادمة على الجميع، وحتى الذين يراهنون على التصويت العقابي ليصعدوا فإن صعودهم سيكون محدودا ولن يحدث أي فارق.

ومن المنطقي أن حركة النهضة هي الوحيدة التي ستستفيد من تدني نسب المشاركة وعزوف الشباب بصفة خاصة عن التصويت، فهي تمتلك جمهورا شبه ثابت قياسا بغيرها، مع أن هذا الجمهور بدأ بالتراجع والانكماش بسبب تواضع أداء الحركة في الملفات الحيوية لدى الشارع الذي يعتبرها الطرف الأول في الحكم المسؤول عن الفشل الحكومي برغم أنها تناور بالتضحية بوزراء من نصيبها في اقتسام السلطة حتى لا تبدو في الواجهة.

دولة الثورة، التي تحررت من اتهامات الارتهان للخارج وفساد العائلة المالكة التي كانت تحاصر نظام بن علي، أعادت رهن الاقتصاد التونسي ليس فقط للصناديق الدولية، ولكن للوبيات الفساد والتهريب والاحتكار

ولا شك أن نتائج انتخابات باردو، وقبلها الانتخابات المحلية، مؤشر قوي على أن العملية السياسية لم تعد تحظى بالشعبية الكافية، بسبب التركيز على صراع النفوذ واقتسام السلطة وإهمال القضايا المعيشية للناس التي ارتفع سقف مطالبها بعد الثورة.

لكن النتائج كانت صادمة، إذ لم تحمل الثورة، أو لنقل الجهات التي استلمت إدارة البلاد باسم الثورة، أي بدائل، كما أنها عجزت عن توفير مستوى معيشي في حده الأدنى للفئات الاجتماعية الضعيفة، ولم يعد خافيا أن هذه الفئات فقدت امتياز تدخل الدولة الذي كانت تحصل عليه قبل الثورة، وهو تدخل محدود لكنه كان محميّا بالتحكم في الأسعار والضغط على التضخم والحفاظ على قيمة الدينار.

لكن دولة الثورة، التي تحررت من اتهامات الارتهان للخارج وفساد العائلة المالكة التي كانت تحاصر نظام بن علي، أعادت رهن الاقتصاد التونسي ليس فقط للصناديق الدولية، ولكن للوبيات الفساد والتهريب والاحتكار، وبات المواطن الذي ينتمي في السابق إلى الطبقة المتوسطة عاجزا عن تحقيق مستوى معيشي متوازن، فما بالك بالطبقات الفقيرة والمهمشة التي ارتفع عدد المنتمين إليها في التصنيف الاجتماعي بعد تقلص الطبقة المتوسطة.

وفي ظل غياب مؤشرات جدية على تصحيح مسار الثورة عبر صناديق الاقتراع أو عبر انتفاضة شعبية جديدة على منظومة الحكم، فإن الشارع ليس لديه من خيار سوى مقاطعة الانتخابات وإظهار غضبه على الدولة الفاشلة وأدواتها السياسية والاجتماعية.

ولا تبدي الأحزاب السياسية قلقها تجاه انسحاب الناخبين وسط حرب كواليس للتوصل إلى ترتيبات تفضي إلى قوائم قادرة على المنافسة في الانتخابات التشريعية التي تفضي إلى تثبيت الأحزاب الفائزة في المشهد ما يعطيها الحق في الحصول على منابها من السلطة.

وتقول دوائر مقرّبة من الأحزاب الفاعلة إن الأولوية الآن للانتخابات وبعد ذلك سيتم التفاعل مع تطورات الوضع الاجتماعي، وهذا مبرّر واه للتهرب من الاستحقاقات التي على الأحزاب لعبها سواء أكانت في السلطة أو على هامشها.

ومن الواضح أن الطبقة السياسية مطمئنة إلى غياب ردود فعل شعبية عنيفة خاصة في ظل توزع النفوذ على الإعلام بين الأطراف المؤثرة، وتحريكه وفق أجندات محسوبة لا يعنيها أبدا الضغط لتطوير أوضاع الناس.

يضاف إلى ذلك غياب المعارضة واتحاد الشغل وتحوّلهما إلى جزء من لعبة تقاسم المنافع التي تدفع نحو استمرار ديمقراطية شكلية وغير ممثلة يمكن تطويعها لتحقيق أجندات محلية تابعة.

كما أن المجموعات الجديدة الصاعدة أو الأشخاص المثيرين للجدل مثل رجل الأعمال نبيل القروي أو عبير موسي لا يظهرون بوصفهم نقيضا جذريا لمنظومة الحكم، ولكن يتم تصعيدهم في سياق تغيير الوجوه والاستفادة من صراع الشقوق وليس صراع البرامج، وهو ما يفسر غياب أي رغبة في تكوين جبهة موحّدة لوقف تقدّم النهضة.

وقابلت عبير موسي بحدة التسريبات عن تحالف محتمل بين حزبها الحزب الدستوري الحر وبين حزب البديل لمهدي جمعة، رئيس الحكومة السابق والذي يحظى باهتمام إعلامي بالغ، كما جاء في مرتبة ثانية بانتخابات باردو. واتهمت موسي جمعة بأنه واجهة للنهضة.

ويحاول جمعة أن يبدو أكثر تماسكا في الأفكار والردود أكثر من غيره داخل المنظومة، ورغم أنه لا يمتلك داخل حزبه البديل قيادات ذات وزن سياسي أو قدرة خطابية وكاريزما، لكن المؤشرات الأولى تقوده إلى طرف رئيسي في منافسة النهضة.

البديل لمهدي جمعة يحاول أن يبدو أكثر تماسكا في الأفكار والردود أكثر من غيره داخل المنظومة، ورغم أنه لا يمتلك داخل حزبه البديل قيادات ذات وزن سياسي أو قدرة خطابية وكاريزما، لكن المؤشرات الأولى تقوده إلى طرف رئيسي في منافسة النهضة

وحرص ممثلو جماعة عيش تونسي على تكذيب تصريحات نسبت لسميرة الشواشي، القيادية في حزب قلب تونس لنبيل القروي، عن اتصالات لدراسة تحالف حكومي ما بعد الانتخابات التشريعية، وهو ما يعني أن الأحزاب التي توصف بالوسطية والليبرالية لم تتشكل كمشاريع اجتماعية يمكن أن تمثل بديلا للتحالف الحكومي الحالي، ولكن هي واجهة لأشخاص هدفهم مواجهة النهضة في ملعب الانتخابات، وهو قصور كبير في الرؤية لأن الحد من نفوذ الإسلاميين يحتاج إلى مشاريع للتغيير الاجتماعي وليس إلى تحرك منفرد مهما كان وزن صاحبه وحجم الدعم الذي يتلقاه.

والنهضة نفسها لا تخفي ورطتها في مجاراة إلحاحية المسألة الاجتماعية في المستقبل، وأنها لو نجحت في الصعود للبرلمان، فإن أزمة كبرى ستتفجر بوجهها، وهي أزمة البطالة وتدني القدرة الشرائية وارتفاع الأسعار والتخلي التدريجي عن الدعم المخصص للمواد الأساسية، وهو تخل التزمت به حكومة الشاهد والنهضة في سياق تنفيذها لشروط صندوق النقد الدولي.

وأعلن رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي في خطاب ألقاه منذ أيام أن حركته ستنتقل إلى مرحلة الدفاع عن المستضعفين بالمناطق الداخلية والمهمشة تنمويا، منتقدا التفاوت التنموي بين الجهات.

ويكشف هذا الخطاب عن إحساس بأن اللعبة بلغت أقصاها وتحتاج إلى استدارة سريعة، وأن شماعة الانتقال الديمقراطي وتركيز المؤسسات لم تعد تقنع ليس فقط الشارع التونسي، ولكن أيضا جمهور النهضة ومنتسبيها الذين ثاروا منذ أيام على خيارات داخلية في التنظيم ذي الخلفية الإخوانية.

والمفارقة أن الغنوشي، الذي يحاول طمأنة جمهوره بأن المسألة الاجتماعية ستكون في قلب اهتمامات حزبه، عاد بهم إلى خطاب الثمانينات، الذي كانت فيه التنظيمات الإخوانية منبهرة بشعارات ثورة 1979 في إيران، في تناقض كامل مع مسار تسويق الحركة للغرب ولدوائر النفوذ في الداخل بأنها حركة مدنية تونسية.

العرب اللندنية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى