“الفن التجريدي طقس روحي: رحلة هيمت محمد علي في ذاكرة الزمن”

حاورته : دنيا صاحب – العراق

§ كيف تعرّف نفسك اليوم؟

§ هيمت محمد علي، فنانٌ سائحٌ في عوالم الفن والجمال. وُلدتُ عام 1960 في قرية علي سراي – كركوك، العراق، وأحملُ في داخلي ترحال المدن وشغف الاكتشاف. أبحث عن مدينةٍ أرتاح في أفيائها، وأوثّق معالمها بريشتي، لتبقى خالدة في طيّات ذاكرة الزمن.”
“بدأتُ حلمي رسامًا، وعابرَ زمنٍ.
لا أكتفي بهويةٍ جغرافيةٍ تُقيدني، بل أُعرِّف نفسي بالتحولات التي شكّلتني، وبالمراحل التي خضتها في مسيرتي الفنية، التي مررت بها. بين بغداد وعمان وطوكيو وباريس، وكل مدينة تركت أثرها في خلجات روحي وطبعت معالمها في قلبي واثرت على تركيبة ألواني ولوحاتي . أعيش اليوم في باريس، لكنني دائم العودة إلى ذاتي الأولى، إلى تلك الحجرة الصغيرة التي تعلمت فيها أول مرة كيف أنظر إلى العالم بعين فنان صوفي، حيث كانت الطبيعة عالم الخيال الذي أنتمي إليه روحيًا، تنسج أحلامي بريشةٍ وألوانٍ زاهية و أرسم زخارف واشكال هندسية كانها سطح الأرض مفعمة بالشغف والجمال ين ينعكس عليها نور الشمس .

§ ما العلاقة التي تربط بين الفن والزمن من وجهة نظرك؟”

§ الزمن بالنسبة لي ليس ساعات تُقرأ، بل نبض يُعاش. لا أتعامل معه كشيء يمر، بل كثافة داخلية. حين أرسم، لا أنقل لحظة آنية، بل أسعى لملامسة طبقاتها الخفية. الفن عندي هو محاولة للإمساك بالحاضر قبل أن يتبخّر، “للاستماع إلى صوت الماضي الذي أصبح تراثًا مهمًا، أنظر إليه بعين التأمل والتجديد ، منذ المراحل المبكرة لانسيابي مع الفن البصري والألوان التجريدية.” وللاحتفاء بزمن داخلي لا يخضع للتقويم. في كل لوحة، أوثق وقتًا آخر، زمنًا لا يُقاس بالساعة، بل بلحظات الإحساس.”

§ ما الذي يقودك لاختيار لون معين في أعمالك؟

§ اللون بالنسبة لي ليس مجرد اختيار تقني، بل هو حالة وجدانية تعكس اهتزازات داخلية عميقة. “أختار اللون قبل أن تراه عيناي، فهو يأتي إليَّ أحيانًا كنسمة هواء لطيفة، وأحيانًا كألوانٍ تنبثق من جمال الطبيعة، وأحيانًا كألحانٍ تُجسّد إيقاع الوجود، أو كبيت شعرٍ يفوق كل تفسيرٍ عقلاني، يأخذني معه إلى عوالم غير مرئية.”

هناك لون لا يشبه إلا لحظة عشتُها في طفولتي، وآخر يحمل ذكريات المدن التي سافرت إليها، “وجمال ألوان الطبيعة الساحرة، التي تسلّلت إلى خلجات روحي وأثّرت في رؤيتي الفنية.” لا أختار الألوان، بل هي التي تختارني. أنا مجرد وسيط بينها وبين اللوحات .

§ هل ما يزال الفن بالطريقة الصوفية قادرًا على التعبير عن قلق الإنسان المعاصر ومعالجة غربته الروحية؟

§ نعم، بل هو أكثر الفنون قدرةً على ذلك. ففي زمننا المعاصر، حيث يعلو الضجيج وتندر لحظات الصمت والتأمل، نحن في أمسّ الحاجة إلى إحياء الفن الصوفي الروحاني؛ ذاك الفن الذي يعيدنا إلى داخل أنفسنا، إلى العمق، إلى الوعي الكوني، والنور الأزلي.

الفن الصوفي لا يقدّم أجوبة جاهزة، بل يفتح نوافذ على عوالم غير مرئية، لا تُدرك بالحواس، بل تُلامَس بالبصيرة. هناك، يتحول الزمن إلى ومضة مستنيرة، والمكان إلى تجلٍّ من تجليات الوجود. في تلك اللحظات، ينسجم الفنان مع المطلق، ويغدو الإبداع صلاة زخرفية لونية ترتقي بالروح نحو أبعاد سماوية متقدمة.

الرؤية الصوفية في الفن لا تنحصر في تصوير الظاهر، بل تسعى للكشف عن المعنى الخفي، عن الإشراقات الداخلية والتجليات النورانية. هي سعيٌ لمعرفة العوالم اللامرئية، وترجمة النور إلى خلايا هندسية، وتحويل الصمت إلى إيقاعات لونية تنبض بالحياة.

إن الفن الرمزي الصوفي ليس زينة بصرية، بل هو تجربة روحية، عقلية، ووجدانية. ملاذنا من عالم مزدحم بالسطحيات والمأدبات الفانية، وسفرٌ نحو جوهر الحياة، ومعنى وحدة الوجود في حضرة المطلق: الله سبحانه وتعالى.

§ كيف ترى اللوحة كطقس تأملي يُخاطب المتلقي فكرياً وجدانياً ؟

§ في فلسفتي، كل لوحة ليست مجرد شكلٍ بصري، بل هي طقسٌ من التأمل، ومساحةٌ لحوارٍ صامت بين الذات الواعية والطبيعة. لا أرسم لأعرض صورةً فحسب، بل لأفتح بابًا نحو فهمٍ أعمق وينتظر من يوقظه. “نحو سؤالٍ يسكن أعماق الروح، ويتوارى خلف الظاهر، منتظراً جواباً من الغيب المخفي.”اختياري للورق الياباني لم يكن اعتباطيًا، بل نابعًا من وعيٍ جمالي وفلسفي. فهو مادة مصنوعة يدويًا، غالبًا ما تُدمج فيها أوراق الشجر أو بتلات الورد، ما يمنحها ملمسًا وروحًا تشبهان سطح الأرض وجمال الطبيعة.
أستخدم هذا الورق في أعمالي لأنه يُجسّد ذلك التفاعل الحيّ بين المادة والخيال، وأرسم عليه كأنني أفرش موكيتات أرضية، تمثّل مساحات وجودية في تجربتي التشكيلية، تتجلّى في غمرة سحر الخيال، وتدعونا للتأمل في العلاقة بين الإنسان والطبيعة والكون.

أما الكتابة باللغات المتعدّدة — العربية، اليابانية، وأحيانًا الفرنسية — فهي ليست مجرد حروفيات أو عناصر زخرفية، بل جسورٌ للمعنى والتنوّع الثقافي، تمتدّ من ذاتي إلى المتلقّي، لا لتُقرأ فقط، بل لتُعاش وتُتأمّل. “أنا لا أسرد في لوحاتي تعبيرًا واضحًا، بل أهمس حكايات المدن والأرواح التي تسكنها، وأترك فيها مساحات من الصمت والتأمل العميق، كي يصغي المتلقي لما يليق بإصغاء قلبه. فالفن، بالنسبة لي، ليس مجرد وسيلة لإيصال رسالة، بل دعوة لاكتشافها بروح منفتحة وبصيرة متأملة.”

§ كيف تولد اللوحة من رحم القصيدة؟

§ كيف تولد اللوحة من رحم القصيدة؟
أنا لا “أرسم” القصيدة، بل أحاورها. أعيشها، وأُصغي إلى موسيقاها الخفيّة.
الشعراء الذين تعاونتُ معهم، أدونيس.. ومحمد بنيس.. وكوتارو جينازومي.. وقاسم حداد .. لا يُملون عليَّ ما أفعل، بل يفتحون أمامي أبواب التأويل.
أقرأ القصيدة، وأرسم أثرها في داخلي.ليست اللوحة ترجمة بصرية للنص، بل تجربة روحية مشتركة، حيث يتماهى النص مع الصورة الشعرية في فضاء من الإحساس العميق والتجلي الجمالي.

§ ماذا أردت أن تقول في كتابك “الوقت”؟

§ في “الوقت”، أردتُ التأمل في هذا الكائن الغامض الذي نُسمّيه الزمن. جمعتُ لوحاتي مع تأملاتٍ كتبتُها كأنها رسائل أو محادثات رقمية مع لحظةٍ عابرة.
أردتُ أن أستمد من إيقاع الزمن طقوسي الروحية في تجربتي الفنية، أن أُعيد له انسيابيته الجمالية، وأستعيد علاقتي الحميمة به، خارج صخب العصر وتسارع الوقت المعاصر. الكتاب ليس مجرد عرض بصري، بل تجربة شعورية تتجاوز الحواس الظاهرة. إنه دعوة لأن نحيا اللحظة الآنية، لا كمجرى عابر في نهر الماضي، بل كحياةٍ حاضرة نستقبلها بوعيٍ وشفافية. زمنٌ يتدفّق بانسجام مع إحساسنا ومشاعرنا، نصوغ منه واقعًا يلامس أعماق ذواتنا، ومشاعر أرواحنا الجميلة؛ حيث يتحوّل كل تفصيل بسيط إلى ومضة وعي لا تمرّ بسرعة، بل تُعاش بكل طاقتها وتجلياتها.

§ كيف أثّرت المدن والمهجر في تشكيل رؤيتك الجمالية والفنية؟

§ لم تكن المدن التي عشتُ فيها مجرّد أماكن للإقامة، بل كانت محطّات مهمّة في تشكيل رؤيتي الفكرية والجمالية. ساهمت في توسيع مداركي من خلال ما تقدمه من ثراء معرفي وفكري بالتنوع الثقافي وإلانساني .

كركوك كانت البداية ومنبع الإلهام الأول. فيها تفتّحت حواسي، وتكوّنت ملامح الذوق والإحساس الفني منذ الطفولة. أما بغداد، فقد كانت رحلة عميقة في أعماق الفن، مدينةٌ مشبعة بالتجارب والأسئلة الكبرى: عن الفن، والحياة، والمصير، والإبداع المتولّد من التحوّلات. كان الفن بالنسبة لي مرآة للبيئة الثقافية العراقية، يعكس حركة التغيير والتطور.

عَمّان فتحت لي نافذة على الذاكرة، حيث أعادت إليّ رائحة الماضي وتراث المملكة الأردنية الهاشمية العريق، وأيقظت في داخلي الحنين المتجذّر للأمكنة التاريخية. أثّرت هذه المدينة في تكويني الثقافي والوجداني، حيث تعلمت كيف أتفاعل واستمد افكاري من الأماكن التراثية في تشكيل مضمون لوحاتي .

أما طوكيو، فقد قدّمت لي لحظات فارقة في مسيرتي، منحَتني آفاقًا جديدة للتأمل والانفتاح الداخلي والخارجي. شكلت أساساً مهماً في تطوري الفني، خاصةً من خلال استخدام الورق الياباني الذي وظّفته بأسلوبي التشكيلي الخاص ، مما ساعدني على اكتساب تقنيات وتجارب جديدة.
باريس… مدينة الانفتاح والدهشة. أحببتها في معالمها ومتاحفها، وتأقلمت مع تفاصيلها: بجمالها الفني وطابعها الرومانسي. كانت مصدرًا للإلهام، وملاذًا للراحة والاستجمام. لقد أثّرت بعمق في تجربتي التشكيلية وأسهمت في تكوين ألواني التجريدية. التي لاقت صدى واسعاً من القبول والإعجاب. قدمت لي باريس فضاءً رحباً للتجريب واكتشاف مهاراتي من خلال التقنيات الحديثة.

أما المهجر بصورة عامة، فلم يكن مجرّد مكان للإقامة، بل كان رحلة روحية وجودية أسهمت في نضوجي المبكر. وأثبتت وجودي في عالم الفن المعاصر.

بين هذه المدن، اكتشفت ذاتي الإنسانية بوعي جديد، خارج حدود الزمن والمكان. تعلّمت أن أبحث عن المعنى الجمالي في التفاصيل الصغيرة، وأن أستشعر جمال الطبيعة ودفء المدن، وأجسّدها في مضمون وتكوين لوحاتي، التي أراها حقول زهورٍ ملوّنة تعطر الأرواح بعبق الذكريات. إنها نوافذ روحية من اللون والشعر، استوحيتها من الشعراء والأمكنة التي ارتحلت إليها. فغدت كل لوحة ملاذًا لإحساسي وكياني، وصدها قائم يأتي من ربيع القلب .

§ ما الرسائل التي تود أن تتركها للأجيال القادمة؟

§ لا تنجرفوا وراء مفاهيم العولمة وزمن السرعة، بل امنحوا أنفسكم وقتًا لقراءة كتاب أو التأمل في لوحة، أو لحن، أو لون، أو بيتٍ من الشعر، . فالثقافة الروحية تنبع من عمق وعي الإنسان بذاته، ومن علاقته بخالقه، والكون بأسره.

الفن ليس رفاهية، بل هو ضرورة في الحياة؛ إنه الصوت الداخلي الذي يعيد تشكيل الإنسان من الداخل.

لا تسعوا وراء النجاح في زحام الحياة، بل ابحثوا عن الصدق في أقوالكم وأفعالكم، وعن الإصرار والتفاني في إنجازاتكم، ففي الصدق يكمن سرّ النجاح الحقيقي.

استمعوا دائماً إلى صوتكم الداخلي، فهناك يقيم المعنى الحقيقي لذواتكم.

احلموا أحلامًا كبيرة، وكونوا أوفياء لها، فهي بذور نور تنمو في أرض الأحلام، وتزهر في وقتها المناسب.

لا تقلقوا من الاختلاف وتنوع الثقافات، بل اجعلوه فرصة للتجديد، والابتكار، والإبداع، فالتّميز يولد من روح البحث واكتشاف الفنون الجديدة.

والشجاع حقًا هو من يدرك أن التنوع الثقافي وسيلة للتطور والارتقاء، شرط أن يحافظ على هويته الثقافية بصدق وسط هذا التعدد في ثقافات شعوب العالم.

§ في العديد من لوحاتك، نلاحظ تكاملًا بين الألوان والنصوص الشعرية. كيف تحدد العلاقة بين اللون والكلمة في تشكيل المعنى داخل اللوحة؟

§ العلاقة بين اللون والكلمة في لوحاتي هي تفاعل حيّ بين البُعد العاطفي والبُعد الفكري. فالألوان تحمل مشاعر وتجسّد حالاتٍ نفسية، بينما تضيف الكلمات بعدًا ثقافياً وفكرياً للعمل. وبامتزاجهما، يتكاملان لتكوين تجربة بصرية تسمح للمشاهد بالتفاعل مع اللوحة على مستويات متعددة. الألوان تمنح الكلمات حياة وشعورًا بالانتشاء، بينما تُضفي الكلمات عمقًا معنويًا على الألوان، فتتشكل بذلك لغة فنية تمزج بين الأحاسيس والمشاعر، والتأملات الفكرية.

§ الكلمة الأخيرة في خاتمة اللقاء؟

§ إن الفن بالنسبة لي ليس مجرد وسيلة للتعبير، بل هو لغة روحية تجمع بين ثقافات الشعوب، وبين الحقيقة والخيال، لتخلق فضاءً جديداً يدعونا جميعاً للتأمل في عالمٍ، يتجاوز المظاهر السطحية، ليلامس جوهر الحياة.

الصور بعدسة المصور شربل ديسي

زر الذهاب إلى الأعلى