لا تسلّموا سورية إلى إسرائيل
بقلم: لميس أندوني

ليس عنوان المقال موجّهاً إلى الشعب السوري، وأيضاً ليس بالضرورة إلى الإدارة السورية، وإنما هو للتحذير من التخلي عن سورية وتركها رهينة الشروط الأميركية لرفع الحصار الخانق عنها، هذا من ناحية. والتهديدات الإسرائيلية التي قد لا تنسحب من الأراضي التي توغلت فيها، وتمارس الابتزاز لتقسيم سورية وتفتيتها، أو على الأقل إنهاكها أكثر مما هي عليه. العنوان رسالة إلى الدول العربية القادرة على حماية سورية، ليس بشنّ حربٍ نيابة عنها، وهو أصلاً أمر غير مطروح، وإنما بدعم اقتصادها والوقوف معها سياسياً وإنسانياً.

الخوف أن بعض الدول لن تفعل ذلك، بل تضغط على سورية لدخول الاتفاقيات الإبراهيمية مع إسرائيل، وكأن هضبة الجولان غير محتلة، وكأن إسرائيل لا تسيطر على أراضٍ سورية وتقصفها حينما تشاء، دمّرت الجيش السوري منذ أول أيام سقوط النظام السابق، في خطوة مقصودة، فسورية لم تكن لتشنّ حرباً على إسرائيل، لأنها تحتاج إلى استعادة جزء من عافيتها، فالوضع يحتاج إلى الهدوء والاستقرار لإعادة بناء بلد دمّره نظام دموي، وعانى شعبه سنوات طويلة من الغُبن والاستبداد.

لا يمكننا إلا مشاركة الشعب السوري فرحته بإعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب أنه وجّه بوقف العقوبات القاسية، التي لم تطاول النظام السابق في تأثيرها، بل الدولة والشعب السوريين.

بغض النظر عن أي رأي أو موقف من ترامب، فشعور التحرّر من قبضة المقاطعة لا يمكن التقليل منه، ومن يريد أن لا يحس أو يفهم لأسباب أيدولوجية مسبقة فهذه مشكلته، وفي رأيي الموضوع هو موقف أخلاقي قبل كل الاعتبارات والحسابات.

لكن انعدام الثقة في أميركا ليس عبارة عن وهم أو انطلاقاً من نظريات المؤامرة؛ فهذه ليست المرّة الأولى ولا الأخيرة التي تخذل أميركا أو تخون شعوباً اطمأنت إلى وعودها، وغزّة شاهدة على ذلك، فقد نام أهلها على وقف إطلاق النار كان وراءه ترامب، وأفاقوا عند الفجر على نار القصف تلتهمهم في أيام عيد الفطر، ونأمل أن نكون مخطئين بشكوكنا ومحاذيرنا، لكن تجربة الشعوب مع أميركا وإسرائيل مريرة.

للحق؛ لا يمكن لوم الشعب السوري إذا تعلق بأي قشّة للخلاص، ولا يحقّ لأحد المزاودة، فالعلّة الأساس أن أي دولة أو شعب يقع لا يجد أملاً في نظام عربي مهترئ، لأن الكل وضع الحلّ في يد أميركا التي لديها مصالحها، فنحن منطقة نفوذ، ولست متأكدة أن كل بوادر النية الحسنة العربية، بما فيها مشاركة دول عربية في استثمارات هائلة لإنعاش الاقتصاد الأميركي، كافية لتغيير أي شقٍّ من الاستراتيجية الأميركية، وإلا لوضع ترامب كل ثقله لوقف حمّام الدم الذي تدفق بكثافة خلال جولته في المنطقة، فما يريده لا يجعله يستعجل بإنقاذ أرواح الفلسطينيين بل يعمل على مهله.

خلاف ترامب مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وإنْ كان حقيقياً، ليس كافياً ليعاقب إسرائيل أو أيضاً يهدّد بوقف تزويدها بالأسلحة أو المساعدات، ولا يجعله يأخذ موقفاً علنياً من التوغل الإسرائيلي في سورية، بل ما صرح به من ضرورة التخلص من السلاح الفلسطيني في غزّة، فلديه مصلحة في السيطرة على القطاع المنكوب من حرب الإبادة الصهيونية، ومن دعوته الرئيس السوري أحمد الشرع للانضمام إلى الاتفاقيات الإبراهيمية التي كانت الإمارات أول من وقع عليها عام 2021، بدون أن يذكر، حتى من قبيل الإشارات، الاعتداءات المتكرّرة على الأرض، إذ إنها تزيد من الضغوط على سورية للمصالحة مع إسرائيل بدون المطالبة بحقوقها واستعادة السيادة على أراضيها.

التطبيع مع دولة لديها مشروع استيطاني إحلالي وتنفذه، إضافة إلى أنه يزيد من إمعانها في إبادة الشعب الفلسطيني، فهو لا يضمن الأمان لأي دولة عربية خاصة التي تأذت من احتلال إسرائيل لأراضيها وتقع في المنطقة الجغرافية المحاذية لإسرائيل. وليس أن الامارات والبحرين في منأى من أطماع إسرائيل، فهي ترى في الدولتين مصدر نهبٍ لأموال ونفط لا يُشبِع شراهتها إلى الهيمنة والتحكّم، لكن الخطر أكثر مباشَرة على لبنان والأردن ومصر وسورية، فالمشروع الصهيوني يتطلب احتلال أراضٍ في كل من الأردن ولبنان وفلسطين، بحجّة توفير الأمن لإسرائيل، والتحكم في شروط علاقاتها وتحالفاتها بل عقيدة جيوشها، لقد أصبح الأمر ليس مجرد كلماتٍ في كتبٍ صهيونية، بل تحس أنها تستطيع تنفيذ ذلك، من خلال الاعتداء المباشر ومن خلال توقيع اتفاقيات مجحفة بحق سيادة هذا الدول وثرواتها، فكما نرى في لبنان والأردن، تتصرف إسرائيل وكأن الغاز اللبناني والثروات الطبيعية في الأردن والمياه، على شح توافرها، حقّ لها. وللتذكير، أو لتنبيه من لا يعرف، حوّلت إسرائيل، بل سرقت، حصة الأردن من مياه بحيرة طبريا في الستينيات، وفرضت على الأردن تقاسم موارده المائية، بالرغم من التوصل إلى معاهدة وادي عربة “للسلام” عام 1994.

أنا في حيرة؛ إذ ما زلنا نجد أن علينا التحذير من أخطار إسرائيل بعد مرور 77 عاماً على النكبة الفلسطينية، وبالرغم من فداحة المجازر اليومية التي لا تأبه إسرائيل بارتكابها أمام عدسات التصوير وتبثّ على الشاشات في العالم، فإذا كان هناك شك أن الخطر الإسرائيلي يهدد الفلسطينيين فقط فهذه مشكلة كبيرة، والمصيبة إذا كانت حرب الإبادة بتفاصيلها المرعبة لا تقنع أي عربي بجرم إسرائيل، فلا شي يقنعه إلا إذا وصل إليه الخطر ويكون الوقت متأخّراً… كتبت هذه الجملة وأنا في ذهول من أن قد نكون قد وصلنا إلى مرحلةٍ من عدم الاهتمام بالنكبة الفلسطينية، فالأصوات المطالبة والمؤيدة للتطبيع تعلو أكثر من أي وقت مضى في زمنٍ يسود فيه وهم الخلاص الفردي، أو في خلاص كل دولة عربية على حدة، فالحرب على الشعب الفلسطيني بدأت قبل ظهور حركتي حماس وفتح، بل كان ظهورهما نتيجة مشروع اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه ووطنه، وليس العكس، فمن يرى من الدول القادرة على دعم دولة عربية وحمايتها من الانجرار إلى فخ المعاهدات الإسرائيلي، وبدلاً من ذلك تساهم بالضغط لإغراق العرب في المستنقع الإسرائيلي، لا تهتم وتحسّ بمعاناة الشعب الفلسطيني أو السوريين، وإنما ترى المشهد من زاوية عقد صفقات أمنية أو مالية لا أكثر.

أسوق المقال، من منطلق الحرص، وأوجّه رسالة إلى الرئيس السوري، أحمد الشرع، أن لا يقبل التوقيع، لأن ذلك قراره في نهاية الأمر، لكن الأهم التوجّه إلى الدول التي تستطيع أن تلعب دوراً حاسماً في حماية سورية، فيكفينا النكبة الفلسطينية، ولا يستحق الشعب السوري إلا إنهاء عذابه وولوج فجر حريته وازدهاره، فالشعب الفلسطيني ليس أهم الشعوب، لكن تجربته هي، للأسف، درسٌ عن معنى ومأساة استهداف المشروع الصهيوني، الذي لا يؤمن بالتعايش مع الشعوب بل بالهيمنة عليها.

زر الذهاب إلى الأعلى