لا أريد جائزة «المستمع المثالي»
رنا حداد

النشرة الدولية –
هل تشعر بالإنهاك؟
ربما مجرد حديث طويل، لا يُشبهك هو السبب.
حديثٌ مكرر، خالٍ من المعنى، يُشبه مشهدًا معادًا مكررًا في فيلم فقد دهشته منذ زمن، ورغم ذلك، نستمر في مشاهدته بدافع المجاملة، أو الأمل.
أناقش نفسي كثيرًا بعد «بعض» الجلسات التي أخرج منها مثقلة، رغم أنني لم أتكلم سوى القليل. أطرح على نفسي الأسئلة ذاتها: هل أصبحت مُبالغة؟ هل حساسيتي المفرطة تُحمّل الكلام ما لا يحتمل؟ هل عليَّ أن أتقبّل هذا النوع من التواصل كما هو، بلا اعتراض داخلي؟ وإلى متى؟
الحقيقة أنني تعلّمت أن أميّز هذا الشعور ، هذا الثقل الخفيف الذي يهبط على صدري ـ كمن عاد من مشوارٍ طويل دون جدوى.
شعورٌ يخبرني أنني استُنزفت في شيء لا يُشبهني. لماذا أكمل الإستماع إليهم؟
بالطبع، لا أتحدث عن الأحاديث العابرة، أو حتى الشكوى العابرة، من صديق أو قريب ـ فكلنا بحاجة إلى من يسمعنا ـ بل عن ذلك النوع من الأحاديث التي تُقال دون نية حقيقية، أو رغبة صادقة في التغيير. أحاديث مليئة بالمراوغة، أو الإدعاء، أو حتى الإستغلال العاطفي.
بعض الناس لا يدركون أنهم لا «يتحدثون معنا»، بل «يستخدموننا». فوجودنا، بالنسبة لهم مجرد حائط يتكئون عليه، أو حاوية يُفرغون فيها تعبهم الذي لا يريدون التوقف لحظة للتأمل فيه.
ونحن، في المقابل، نصمت. ننصت. نحاول أن نكون كما تعلّمنا دومًا: متفهمين، صبورين، داعمين.
لكننا، في أعماقنا، نصرخ.
نصرخ لأن الحديث لا يعنينا. لا يضيف لنا. لا يلامس حقيقتنا. لأنه كاذب أحيانًا، أو متكرر بلا روح، أو حتى محشوّ بالتذمر الذي لا يُولد حلاً.
نصرخ بصمت ..متى سيتوقف. لأننا لا نريد أن نكون مرآةً لأحد، ولا مقعدًا إضافيًا في مسرحه الداخلي.
ورغم كل هذا، نستمر بالإستماع.
لماذا؟ربما لأننا تربّينا على أن الإنصات فضيلة. على أن قطع الحديث فيه نوع من القسوة أو قلة الأدب. أو ربما لأننا نأمل في كل مرة أن نسمع شيئًا مختلفًا، أن يفتح الطرف الآخر نافذة صِدق نادرة، أن نشعر أن وجودنا ترك أثرًا طيبًا. نمنح من وقتنا، ومن انتباهنا، ومن قلوبنا ثم نغادر وقد خسرنا شيئًا صغيرًا من أنفسنا دون أن ننتبه.
بالطبع، نحاول أن نُخفف، أن نُفسّر، أن ننصح، أن نُبرر، أن نُشارك في صناعة التغيير، بينما الطرف الآخر لا يريد شيئًا سوى أن يُلقي بثقله على الأرض، ثم يرحل خفيفًا، تاركًا إيّانا مع ما لا يخصنا.
في هذه اللحظات، نفهم أن الصبر ليس دائمًا فضيلة. وأن اللطف الزائد قد يتحوّل إلى سذاجة عاطفية. وأن الحدود ليست أنانية، بل حماية.
بعد كثير من الإنهاك ـ بت لا أعتذر حين أنسحب من حديث لا يشبهني، ولا ألوم نفسي على تقصير لم يُطلب مني إصلاحه،
تعلمت أن أؤمن أن الصدق في التواصل لا يعني أن نستمع دائمًا، بل أن نختار متى ولماذا ومع من يستحق وفقط.
بالفعل، كفى لا نريد أن نسمع أحاديث مثقلة بالكذب و»اللف والدوران». فهي لا تغنينا، ولا تعنينا.
فنحن، من ننصت ، وفي كل محاولة لإنقاذهم، نغرق ببطء.
تذكر، أنت لا تملك قلبًا لا ينكسر، ولا صدرًا يتسع لكل «ما هب ودب» . وصبرك ليس ممتدًا بلا نهاية.
نعم، هناك لحظة يصل فيها الإنسان إلى حدّه.. مع الذين يستنزفون صبره، كلمةً كلمة.