خبز وورد وسكر نبات: في فضائل أن يكون الناقد خائنا للعمل الفني* ميموزا العراوي

النشرة الدولية –

كان عليَ أن أقرأ مقالا لأحد الأصدقاء الفلسطينيين عن تجربته الأليمة في العيش في مخيم عين الحلوة في لبنان حتى أعثر على السبب الغامض الذي جعلني أعشق لوحة للفنان رونيه ماغريت بعنوان “العاشقان 1″، رغم أنها ليست على الإطلاق من أجمل لوحاته، على الأقل بالنسبة لي. وقد أخذني التفكير في هذا الأمر إلى التأمل في معنى أن يطلق على المرء صفة “ناقد فني”.

غالبا ما يُقصد بالناقد الفني البنَاء لنص نقدي وفق مقاييس علمية مُستقاة مباشرة من عالم الفن والتشكيل، وإن حصل وأخفق هذا الناقد في تفكيك معالم اللوحة الفنية عبر ردّها إلى أصولها التشكيلية وخلفيتها التاريخية، فذلك يعني أنه ليس بناقد فني جدي.

قد تكون في ذلك حقيقة ما؛ فالنقد الفني علم وصياغة نص نقدي مبني على حقائق. مهلا، حقائق؟ أية حقائق؟ تلك المُتعارف عليها والتي كُتبت في مئات المنشورات؟ أم تلك التي عرّفنا عليها الفنان مباشرة في مقابلة صحافية، أم ماذا؟ لاسيما في ضوء علمنا بكره الفنانين ضمنا أو علنا تعبير “المتعارف عليه” حتى وهم يشرعون في تفسير أعمالهم أمام المهتمين.

لعل أهم فنان على الإطلاق استطاع أن يضرب عرض الحائط بالنصوص الفنية المقفلة بالرغم من بساطة خطوطه وهدوء ألوانه ووضوح معالم أشكاله، هو ماغريت. ومثال لوحة “العاشقان 1” هو من أقوى الأمثلة، رجل وامرأة يلتف حول رأسيهما ووجهيهما المتقاربين قماش حاجب. أُطلق على هذه اللوحة “الحب السريالي”. غموض يفسر غموضا.

العديد من الدراسات تقول إن الفارق ما بين النقد والانتقاد شاسع. النقد موضوعي والانتقاد شخصي حصيلة ضغينة أو ميول متصلة بناقد فني دون آخر. لكن عن أية موضوعية تتكلم تلك الدراسات؟ عن موضوعية الناقد أم الفنان؟

موضوعية الفنان غير مطروحة أساسا. كما يجدر اليوم أن أتأمل في وجه مهم من وجوه “الناقد الفني” بعد أن وجدت كيف أن قراءة شخصية غير موضوعية لمقال عام باستطاعتها أن تفسر ألق عمل فني، ظل غامضا لفترة طويلة، بغض النظر عن معايير فنية ثابتة قادر أن يذكرها كل عالم بـ”القوانين المرعية الإجراء” المذكورة باستفاضة في المطبوعات الأكاديمية حول الفن. وإن كانت قراءة أي عمل فني تقف عند حدود “الحقائق” فأغلب الظن أنها قراءة استهلاكية من شأنها، أحيانا كثيرة، حجب الرؤيا أو على الأقل إلحاق أذى بها.

كما ينمو الوحي الفني الشديد التعقيد في نفس الفنان كذلك ينمو نفس النقد الفني وحيدا وبغرائبية مضمونة. وفي أحيان كثيرة تومض في نفس الناقد أفكار تجاه أعمال تشكيلية لم تكن سابقا واضحة لديه حين يجد نفسه أمام موقف قد لا يمت إلى الفن بأية صلة. لا يقف الفنان أو الناقد الفني أمام لوحة إلاّ وهو مُشبع بمعرفته المصقولة بتجاربه الشخصية، والأهم من ذلك “المُشفّرة” بمُشاهداته اليومية المُتراكمة.

العمل الفني الغامض يحتاج من يخونه كي يكتسب أو ينقشع معناه. هكذا، وفي اللحظة التي مكنني فيها مضمون المقال المقروء من “خيانة” عمل ماغريت الذي يحمل عنوان “العاشقان 1” عبر عملية إسقاطي عليه مشاعر تجربة شخصية دفينة خرجت فجأة من “النسيان”، ووضح لديّ سر افتتاني بتلك اللوحة.

فقد تجسدت في لوحة ماغريت ذكرى خالد الشاب الفلسطيني المقاتل الذي كان يجيء مُلثما جدا إلى المبنى الذي كنا نسكنه خلال الحرب، قبل أن يعتاد علينا ويزيح لثامه أكثر فأكثر ليلة بعد ليلة.

بتنا أنا وخالد متقاربين ومتباعدين جدا كما في لوحة ماغريت، وكان الأمر “عاديا” بالنسبة لنا كما بالنسبة للعاشقين “الملثمين” في لوحة الفنان. وكانت كل اللحظات التي تشاركناها مخطوفة خطفا من ذاتنا “المُغتربة” ومن الناس المحيطين بنا على الدوام. تمرسنا في الملجأ حينا وعند صمت الشموع المسكوبة على أدراج المبنى في الطوابق السفلى حينا آخر في اختراع لغة مبطنة كنا نتناكف عبرها ونعبّر من خلالها عن عاطفتنا تجاه بعضنا البعض.

وعلى سبيل المثال عندما كان الجيران يصنعون القهوة كنت أضيف له وحده على طرف الصحن عدة حبات من سكر النبات، كنت اشتريها من دكانة قريبة خصيصا له مع علمي بأنه يشرب قهوته مرة. كان خالد يضحك ويلتهمها في لحظة حتى عندما صرت أزيد له تدريجيا حبات السكر. رأيت فيه صورة البطل النبيل والإنساني المؤمن بقضيته كما رأيت عبره الأمل في أن يعود الأمن، فقد كانت ترشح منه طمأنينة غريبة.

إن كانت لوحة ماغريت تعبّر عن فكرة الحب كحالة سريالية يكون فيها العشاق وحيدين دوما في تلاقيهم وغرباء عن بعضهم البعض، فخالد كان بالنسبة لي شخصا لا يُرى إلاّ في الليل ولا يظهر إلاّ مُلثما وعند اشتداد القصف. خالد لم يكن عاشقا عاديا. لم يكن إلاّ مقاتلا في ثياب مقاتل. وكل ما ينفي ذلك يهدّد وجوده بيننا. فكيف له إذًا أن يكون شخصا عاديا إن أشرقت الشمس وعادت الأحوال أقل قسوة؟

لم تكتب الحياة “العادية” والخارجة عن لثامه لخالد، فقد استشهد عند دخول الجيش الإسرائيلي بيروت. ثم تأكيدا على لا عاديتها انتشرت صوره على جدران الحي.

هو بات صورة وأنا أمسيت لا أكثر من صورة، من أمل في ذهنه المُغيّب قسرا. صوره تعود إلى ذاكرتي الآن لتؤكد لي بعد أكثر من 30 عاما أنه كان حقيقة وسيظل كما عرفته حقيقيا، ونبيلا وقويا وخالدا في سرياليته.

العرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى