فيلم “لا” المغربي يفجر سلسلة من القضايا الاجتماعية والإنسانية

النشرة الدولية –

في قالب اجتماعي مشحون بالمرارة، قدّم الفيلم المغربي الروائي القصير “لا” معالجة درامية تنتقد الواقع المحلي وتعري أوضاع البشر في بيئات شعبية محكومة بالتقاليد والعادات الموروثة، ملقيا الضوء على قضايا إنسانية شائكة، على رأسها العنف والقهر والانتهاك الجسدي.

والفيلم المغربي الروائي القصير “لا”، عرض مؤخرا بالقاهرة ضمن برنامج عروض سينما دول البحر المتوسط في الأسبوع الأخير من كل شهر بقاعة الهناجر في دار الأوبرا المصرية.

وانطلق فيلم “لا”، من إخراج دمنة بونعيلات وسيناريو كليلة بونعيلات وتصوير هشام آيت علي، من قضايا الواقع بشكل مباشر، حيث جاء بالكامل بمثابة صيحة اعتراض على ما يجري على الأرض، وملحمة رفض وتمرد على السلطة بكل أشكالها القاهرة، التي تُترجم عادة إلى عقد نفسية وصدمات داخلية وانتهاكات بدنية.

ونجح الفيلم في تصوير الحياة القروية البسيطة في المغرب بحساسية وبراعة وفنيات عالية استحق عنها تقدير مهرجان الإسكندرية السينمائي في العام الماضي، واعتمدت المعالجة الدرامية على التشريح الذاتي والغوص في الأعماق الإنسانية واسترجاع شريط الذكريات ومزجه بالحاضر عبر تقنيات متطورة في الكتابة والتصوير والتمثيل، ورسم مسارا إنسانيا مقنعا لدفع قضايا العنف والقهر والتسلط والانتهاك إلى الواجهة، والانتصار لحرية الإنسان وكرامته.

في دقائق قليلة مكثفة، لا تتجاوز ربع ساعة، فجّر فيلم “لا” سلسلة من القضايا الاجتماعية والإنسانية التي مضت تتسع تدريجيا كدوائر الدوامات من الحيز الخاص إلى العام، عبر صورة سينمائية جيدة، وأداء تمثيلي متميز، وهو ما أكسب العمل قدرة على التواصل وطرح رسائله المؤثرة على نطاق واسع.

واعتمد الفيلم أبجديات الحركة ولغة الكاميرا والمؤثرات البصرية والموسيقية والصوتية في المقام الأول، ولم يعتمد كثيرا على الحوار الدائر باللهجة الدارجة، المترجم إلى الإنكليزية في شريط الفيلم، فلم تكن الفكرة الأساسية والمواقف والمشاهد السريعة المضغوطة بحاجة إلى شروح إضافية.

جاءت لحظة زواج بطل الفيلم، الشاب علي، من إحدى الفتيات في القرية (على غير إرادته وإرادتها) نقطة انطلاق لتحريك الأحداث وتفجير قضايا الاستقلالية والحريات التي تشغل الإنسان بوجه عام، ذكرا كان أو أنثى، وتشكّل قيودا وأعباء مضاعفة في البيئة الشعبية المحكومة بالأفكار الذكورية والسلطة الأبوية.

ونقل الفيلم بأمانة وشفافية طبيعة الحياة في القرية الصغيرة، التي لا يمكن الانفلات من تقاليدها الموروثة، فالأب يجبر ابنه على الزواج، وإلاّ تعرض الابن للانتقاد والتوبيخ والطعن في رجولته وربما الاتهام بالشذوذ، والعروس لا تجرؤ على الرفض هي الأخرى على الرغم من عدم قناعتها بالزوج الذي اختير لها دون استشارتها.

ومع تصاعد الأحداث في سياق حفل الزفاف الدائر على مدار الفيلم بزغاريده وطبوله وأهازيجه الفلكلورية، التي نقلت جوانب فنية لافتة للاحتفالات الشعبية المغربية، كشف العمل مكامن الألم والمعاناة في نفوس الرجال والنساء على السواء داخل البيئة الأبوية، ومن أكثر المشاهد جرأة وانتقادا للواقع تصوير لحظة فض بكارة العروس بطريقة وحشية بحضور نساء القرية، وإشهار منديل عفتها الملطخ بالدماء على رؤوس الأشهاد، بما يشكل المعنى الكامل للفضح والانتهاك.

اتخذ الفيلم من النزعة الأبوية البطريركية والإفراط في تصوير السيطرة الأبوية رمزا لإبراز جوانب السلطة المهيمنة على حياة الأفراد بشكل عام، فلا أحد يمتلك الفكاك من القوى الفوقية الحاكمة، التي ترسم الخطوات وتخطّط المصائر وتحرم البشر الاختيار واتخاذ القرار.

وتكرّرت مفردة “لا” على لسان البطل عشرات المرات، فكانت “لازمة” الفيلم، وعنوانه، ومفتاحه، لكن الذي دار على الأرض في حقيقة الأمر من الألف إلى الياء هو “نعم”، فلم يتمكن أحد من تغيير سيناريو القهر المفروض، الأمر الذي أوصل الشاب في النهاية إلى أزمة نفسية، انتهت بقتله عروسه في ليلة العرس.

أبدع ممثلو الفيلم، ومنهم: عبدالرحيم المنياري، فاطمة وشاي، عبدالسلام البوحسيني، فاطمة الزهراء بناصر وسعاد الزواني، في تجسيد الشخصيات الريفية في القرية المغربية ببساطة وتلقائية، وكأن الفيلم تسجيلي وليس روائيا، وجاء الأداء الجسدي بالنظرات والقسمات ولغة العيون مرهفا معبرا إلى أبعد الحدود، كما في لحظة رضوخ الشاب علي لسلطة الأب وتوقيعه على عقد الزواج، وفي لقاء العروسين في غرفة النوم للمرة الأولى، وحال اعتداء الشاب على عروسه وقتلها في المشهد الختامي.

وأسهم التكثيف في بلورة فكرة الفيلم، وإبراز القدرات الخاصة لعناصره الفنية من إخراج وتصوير وتمثيل وموسيقى مصاحبة للأحداث المتلاحقة المتطورة، وبلغ الفيلم مبتغاه في نقل المتفرج إلى داخل البيئة المحلية الشعبية في حالة معايشة كاملة، بالصوت والصورة والحركة والمشاعر المتأججة.

واشتغل العمل، فنيا وتقنيا، على لعبة الزمن، من خلال استرجاع أحداث الطفولة في ذاكرة الشاب، ليتّضح تدريجيا سبب رفضه الزواج بشكل عام، وليس من هذه العروس على وجه التحديد، إذ تعرّض في صباه للاغتصاب من امرأة لعوب، بما سبب له صدمة مهولة وعقدة نفسية جعلته يرى صورة هذه المرأة في كل النساء من حوله.

وبرزت العناصر السينمائية في أوضح تجلياتها من خلال هذا المزج بين الحاضر والماضي، والتداخل بين شخصية الشاب وشخصية الطفل (الشاب في طفولته)، وكذلك بين شخصيتي العروس والمرأة اللعوب، فكأن الفيلم انقسم إلى فيلمين معا في الوقت ذاته، ومن خلال المقارنة بينهما وبلورة المفارقات تصل الإثارة إلى منتهاها وتتصاعد الأحداث إلى ذروتها، حيث يطبق الشاب على عنق عروسه ويقتلها خنقا وهو يصيح “لا”، ويسقط في غيبوبته ومرضه النفسي العنيف.

لقد جسّد فيلم “لا” إرادة التمرد والاحتجاج لفظيا على مدار شريطه كرغبة إنسانية ملحّة، لكن إرادة الواقع فرضت كلمتها، فلا مجال لمخالفة السائد إلاّ بالموت أو الانتحار أو الجريمة أو السقوط في أسر المرض القاتل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى