ميدان إهدن يطرد “خطيئة” زغرتا بالسهر حتى الفجر* أورنيلا عنتر
النشرة الدولية –
المَيدان في الأصل والأزمنة القديمة، ساحة للقتال. لكنّ هذا التعريف لا ينطبق على ميدان إهدن اليوم. فهو تحول فسحة مضادة للقتال والحرب. والدليل أن “حوادث” زغرتا التي امتدت ما بين عامَي 1952 و1970، وذهب ضحيّتها عدد كبير من القتلى، كانت زغرتا وحدها مسرحاً للعنف الأهلي. أمّا إهدن، فنادراً ما دار على أرضها قتال بين أبنائها الذين هم الزغرتاويون أنفسهم.
فأهالي إهدن هم أنفسهم أهالي زغرتا، وظاهرة الشعب الواحد في بلدتين نادرة، خصوصاً أنّ الانتقال من زغرتا الساحلية إلى إهدن الجردية يكون شبه كامل في الصيف. إذاً، في العمق يحرص الإهدنيون على ألّا يقدموا على “الخطيئة” في جنّتهم الصيفية، فلا دنّسوا أرضها ليُطردوا منها. فإهدن هي جنّة عدن، وارتكاب “الخطيئة” فيها مكلف جداً، على ما جاء في رواية العهد القديم. لذا قرر أهلها، عن وعي أو عن غير وعي، أن يقتتلوا في زغرتا، المدينة التوأم التي اختاروها مشتى لإهدنهم الجبلية.
ميدان إهدن هو إذاً ساحة للتلاقي لا ساحة للقتال. قلب البلدة الصيفية هذا يكاد يكون ظاهرة لافتة تميّز إهدن، إذ لا مثيل لساحتها في البلدات والقرى اللبنانية الأخرى. يذكّر ميدان إهدن بساحات المدن الأوروبية والفرنسية الصغيرة، مثل أرل وآكس – أن – بروفانس. والميدان هو مرآة متحولة عن مجتمع إهدن – زغرتا، ويتغيّر وفقًا للتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي طرأت ولا تزال تطرأ عليه. يتغيّر أيضا وفقًا للتغيّرات السياسية. فهو، على الرغم من أنهّ لم يكن ساحة للقتال، شكّل في ما مضى خط تماس بين “الجزء الفوقاني” و”الجزء التحتاني” منه.
اليوم يجوز الفصل بين الميدان على النحو ذاته: فوقاني وتحتاني. لكنّ الفصل ليس سياسيًا ولا عائليًا هذه المرّة. هو فصل بين جيلين: القديم والجديد. ونمطين: التقليدي والحديث. إذ يخيّل لمن يراقب الميدان من على شرفة عالية، أن هناك قدامى الميدان و”الطارئين” عليه.
الميدان الفوقاني
يمكن لقاصد الميدان من الجهة الفوقانية، من الدرج المحاذي لأوتيل زخيا أو نزلة البطريرك إسطفان الدويهي، أن يختار النزول على الدرجات الخمس أو الستّ التي تفضي إلى الساحة أو النزلة الصغيرة المحاذية لها، والمخصصة للمعوّقين، لعربات الأطفال أو للأطفال الذين يهرعون ركضا لبلوغ وسط الساحة. ويُعدّ Ciao من أقدم المقاهي على الميدان، وميزته أنه مخبّأ من جهة تحت الدرج ومكشوف على الساحة من جهة أخرى. فزبائن هذا المقهى يتمتّعون بنوع من الخصوصية لا يجدونه في أيّ مكان آخر، ما عدا طاولة أو طاولتين في مقهى Drop In، موقعها تحت واحدة من شجرات الدلب المعمّرة التي منحت اسمها لمقهى آخر على الميدان، هو Platanus.
يقول حليم معوّض، صاحب مقهى Ciao، إنّ زبائنه من كلّ الفئات العمريّة. “أحياناً يجتمع ثلاثة أجيال على طاولة واحدة: الجدّ والأب والحفيد”. يزور المقهى سيّاح أجانب، وزبائن من خارج البلدة وأهالي إهدن الذين هم من “أهل البيت”، وكلّهم يعرفهم حليم وغالبيّتهم الساحقة من أصدقائه. إمّا يجلسون معه على طاولته حيث كرسيه المعتاد في الزاوية التي لا تتسع سوى لطاولتين أو ثلاثة على الأكثر في الأعلى. يشعر زبائن حليم الدائمون أنهم في مكان يشبه البيت إلى حدّ بعيد، إذ للزبون مساحته الخاصة وحريته في التنقّل.
“لا يستقيم الميدان من دون حليم، الجالس فوق، على كرسيه الثابت في الزاوية، يلوّح بيده للمارّين على الدرج، فيدعوهم لاحتساء القهوة على طاولته”، تقول إحدى الزبونات. ولعّل مقهى Ciao هو الوحيد الذي يصلح على الميدان، وربما في إهدن كلها، ليكون معرضا للفنون حيث يعرض حليم، وهو رسّام، لوحاته على جدران المقهى. وهذا يضفي على المكان سحراً يضاف إلى موقعه الخاص والجوّ الحميميّ الذي يُعرف به.
في محاذاته مقهى عَيْروتْ، وهذه كنية أصحاب المحلّ، وهو من أشهر مقاهي الميدان على الإطلاق. على الرغم من ضيق مساحته وبساطته وكراسيّه البلاستيك، يظل مكتظّاً على الدوام. وهو مثال على مقولة: “البيت الصغير بيساع ألف محبّ”.
يشتهر مقهى عيروت بتقديمه السحلب مع القرفة إضافة إلى صحون البسكويت ورقائق الذرة أو الكورنفليكس، ليضع الزبون ما طاب له منها على وجه السحلب. ولاحتساء السحلب على الميدان طقوسه لدى الإهدنيين الذين يقصدونه في أي ساعة من اليوم. وخصوصا عند العودة من حفل زفاف بعد منتصف الليل، أو بعد سهرة طويلة في مطاعم البلدة أو ملاهيها، أو حتى عند العودة من سهرة في بيروت أو في البترون عند “طلوع الفجر”. هذا الطقس إلزاميّ، فمقهى عيروت يستقبل الزبائن ليل نهار، وصيفاً شتاءً. فالنار لا تنطفئ أبداً تحت طبخة السحلب في مطبخ المقهى.
قهوة الورق
قهوة الورق، أو قهوة روبير نسبة إلى مؤسسها روبير معوض، هي أيضاً علم من أعلام الميدان وعامود من أعمدته. منذ العام 1952 وحتى اليوم، بقي مقهى روبير على حاله: واجهته الأكبر في الميدان كلّه، ويطغى عليها اللون الأخضر في الشراشف التي تغطى الطاولات التي يتحلّق حولها لاعبو ورق الشدّة. وحجارته التي لا تزال على حالها منذ تأسيسه، وحدها تعرف كم من الحظ تختزن أوراق كل لاعب، وتعرف من ربح ومن خسر، ومن يغشّ قليلا ليحفظ ماء الوجه أو ليمزح مع لاعبين يشاركهم اللعب منذ سنوات طويلة.
تتراوح أعمار روّاد المقهى بين منتصف العشرينات إلى الثمانين وأكثر. لكن التنوع الجندري في المقهى خجول بعض الشيء. يقول زاهر إنّ المقهى لم يعد حكراً على الرجال كما في السابق، إذ بدأت النساء تترددن إليه منذ سنوات عشر، وأغلبهنّ من روّاد الليل. ويقول صاحب المقهى، أو وريثه كما يحبّ أن يعرّف عن نفسه حفظا لإرث أبيه، إن “العقليّة السائدة في الماضي تبدّلت. وهذا أمر طبيعي”. ويضيف: “لم تكن سمعة المقهى حسنة، لكن في تسعينيات القرن الماضي، تغيّر وجه المقهى بعدما أصبح مقصداً لدكاترة وأساتذة جامعات ومدارس ومثقفين”. حوالي 90 في المئة من روّاد المقهى يقصدونه يوميّاً، أصبح لعب الورق ضابطاً لإيقاع حياتهم. يفتح زاهر المقهى في العاشرة صباحاً، فيبدأ روّاده بالتوافد تباعًا. يكتظّ المكان وتمتلئ الطاولات وتعلو الضحكات قبل أن يسود المقهى صمت في فترة الغداء. في هذه الأثناء يرتاح الرجال، ومعظمهم من المتقاعدين، في منازلهم بعد الأكل. وعند الرابعة يعودون. ولا يمكث في المقهى حتى الفجر سوى الشباب الذين يسمح عمرهم بالسهر حتى “طلوع الضوء”.
خطبة ديغول
ليست “قهوة روبير” الوحيدة للعب الورق على الميدان. فـالمقهى الذي يعلو Platanus هو أحد أعرق مقاهي الميدان، ويُعرف بالكازينو. ويُقال إنّ الجنرال شارل ديغول، أثناء زيارته إهدن، خطب بالجماهير من على شرفة هذا المقهى المميّز.
في هذه المقاهي التي تسمّى الـ “قهوة” تقدّم القهوة لبنانية فحسب. يقدم زاهر لزبائنه القهوة والعصير والنرجيلة فقط، وفي حال باغت الجوع أحد اللاعبين يمكنه أن يطلب ما يشاء من المطاعم المجاورة. وهذه أيضا ميزة ينفرد فيها ميدان إهدن، حيث يمكن للجالس في مقهى أن يطلب وجبة من مقهى آخر، أو صحن حلو عربي من عند “حلويات فؤاد الجرّ الدويهي” أو سحلب من عند “عيروت”.
هذا التبادل في الصحون ليس إلا دليلا على أنّ الميدان مساحة مشتركة. لكن هذه المساحة العامّة في الأساس، تقلّصت شيئا فشيئاً. بركة الماء التي كانت أجمل ما في الميدان، وكان الأهالي يتحلّقون حولها عندما يلتقون صدفة، كانت نافورتها تلهي الأولاد. لكن قطر البركة تقلّص وقطعت المياه عنها. تلا ذلك احتلال المقاهي المساحة العامة، إذ عمد معظم أصحابها إلى وضع طاولات خارج مساحة مقاهيهم. في الأصل، كان المغزى من الميدان هو التقاء الناس واختلاطهم. لكن هذا تقلص اليوم.
الميدان التحتاني
تغيّر الميدان. لم يعد كما كان في السابق. فالثابت الوحيد في الحياة هو التغيير. عند سؤاله عمّا إذا كان الميدان قد انقسم إلى ميدانَين اثنين، يقول حليم معوّض إنّ الميدان واحد لكنه يتوسّع. ويضيف: “هذا هو الهدف من الميدان كمساحة عامة، مشتركة وحيويّة”. في هذا السياق يقول شهيد مكاري، وهو صاحب مطعم Ricco Street Food، إنّ الميدان واحد لكن القسم القديم منه اختلف كثيرا عن السابق. هذا التغيير أدى إلى تقليص المساحة العامّة في ساحة الميدان الأساسية، ودفع بالجيل الجديد إلى “النزوح” نحو الميدان التحتاني حيث المطاعم والحانات مختلفة جداً. ويضيف مكاري: “هذه المساحة الحرّة التي عرف بها الميدان، انتقلت إلى شارعنا الذي أصبح ساحة للالتقاء”.
على مساحة صغيرة من الشارع وعلى جانبيه تتوزع هذه المحلات تباعًا: Cups and Dogs، Ricco Street Food، Liquid Bar، Minus Pub، Flame، Shuffles، Barbar وفي الشارع الخلفي حانة أخرى اسمها Edge. هنا، لا كبّة زغرتاوية ولا كبّة نيّة. حتى أنّ هذه المطاعم والحانات لا تقدم ستريت فود تقليدي (البيتزا والبرغر والفاهيتا وغيرها من المأكولات السريعة التي يألفها اللبنانيون حتى تكاد تصبح بالنسبة لهم مثل الحمص والفتوّش). في هذه المساحة الصغيرة من الشارع، تباع سندويشات ذات أسماء غربية كـ “الدالغادو” والـ “فرانغو”، والباستا مع النقانق إضافة إلى سمك السلمون.
ثورة الحانات
أمّا الحانات، فهي المقصد الوحيد في الميدان للراغبين باحتساء الكحول، وخاصة الأنواع التي لا تقدمها المطاعم كالـجين والفودكا والرام والكوكتيلات على أنواعها. يعتبر شهيد أنّ هذا الشارع يشكّل ثورة حقيقية في عالم المأكولات والمشروبات في إهدن، فالغالبية الساحقة من المطاعم في المنطقة تعتمد على الأكل “بالشوكة والسكين”، على عكس ما يقدّمه الميدان الجديد.
في هذه الفسحة الجديدة، تستيقظ الحواس كلها وتعمل. يزوّد مثلا Ricco Street Food زبائنه بقفّازين للأكل. أمّا ديكور المطعم المكوّن من اللونين الأحمر والأصفر، إضافة إلى المقعد الزهري اللون، وهو حوض استحمام أساساً، يمكن للزبون أن يساهم في إضافة لمساته الخاصة على المكان بالرسم أو الكتابة على الحائط بقلم أسود كبير.
هكذا تختلف هذه المساحة المحدّثة في “الميدان التحتاني”. على الحائط الذي تركن إلى جانبه سيارات الأجرة، رسومات غرافيتي ألوانها صاخبة، تشي بهويّة هذا الشارع المختلفة. الموسيقى التي تصدح من المحال والتي غالبا ما تكون موحّدة نظرا لقرب المطاعم من بعضها، مختلفة أيضاً: موسيقى غربيّة في أغلب الأحيان ترضي أذواق روّاد هذا الشارع. يقول جو جعيتاني صاحب حانة Minus: “إنّ الزبائن هنا غير زبائن الميدان التقليدي. أعمار روّاد هذه المحلات أقل من 18 سنة، واحياناً يأتي من هم في منتصف الثلاثينات أو آخرها”. وفي أيّام الأسبوع تفتح معظم المطاعم والحانات حتى الساعة الثانية بعد منتصف الليل، لكنها لا تغلق أبوابها في عطلة نهاية الأسبوع قبل ساعات الصباح الأولى.
هل تغني هذه المحلات أهالي إهدن عن النزول إلى البترون وجبيل أو بيروت؟ يقول جو إنها فعلاً كذلك. فهي تخلق مساحة للراغبين في السهر وتوفّر عليهم عناء الخروج من إهدن. ويضيف: “الأسعار في هذه المحلات تنافسية ومنخفضة قياساً بأماكن السهر المعتادة”. أمّا شهيد، فيعتبر أنّ هذه المساحة شكّلت في الصيف الماضي رديفاً للنزول إلى بيروت ومدن الساحل، لكنها لم تعد كذلك هذه السنة. لماذا؟ “لأن البلدية سمحت لنا في الصيف الماضي بإقفال الشارع من الجهتين ليصبح حكراً على المشاة يومي السبت والأحد، فننظم حفلة في الشارع تجمع المطاعم والحانات، فتوضع الطاولات وسط الطريق التي تكتظ بالساهرين. لكن سمحت لنا في هذا الصيف بالقيام بهذا النوع من السهرات، مع DJs، يومي الأربعاء والخميس، علما أنّ هذا الحدث لم يكن يوماً حدثاً أسبوعياً”. ويضيف: “لطالما كان الميدان مساحة تجارية وترفيهية، حتى أنّ هذه السهرات ليست غريبة عن الميدان الذي كان يستقبل فنانين مثل جورج وسوف”. من ينزعج إذا من هذه السهرات؟ بعض أصحاب الدكاكين وبعض اللحامين. أمّا في ما يخص السكان، فلا تزعج هذه السهرات سوى شخص واحد: أبو جميل، وهو رجل طاعن في السنّ، صديق الجميع، لكن النوم صديقه المفضل اليوم.
نقلاً عن موقع “المدن”