من أنت يا سيمون.. لنا لقاء في صورك الزائفة* ميموزا العراوي

النشرة الدولية –

يعود مصطلح “ما بعد الحقيقة” إلى بداية الحرب العالمية الأولى. والبعض يرجعه إلى سنة 2015 حيث تضاعف استخدام البشر للشبكة الإلكترونية العالمية. أما البعض الآخر فيرد أصول هذا التعبير إلى الزمن الذي تلى مباشرة 11 سبتمبر 2001.

ربما حقيقة نشوء وتبلور هذا المصطلح تعود إلى أبعد من ذلك بكثير. تعود إلى الزمن الذي وجِد فيه الإنسان على الأرض برفقة إنسان آخر لا يريده ندا مهما كلف الأم، بل يريده خاضعا له.

خاضعا له في البداية بالقوة الجسدية والعسكرية ثم من خلال ما استحدثه من مَرافق متطورة وما ابتكره من أساليب إقناع و”أشياء مُسالمة” نمت في بيئة افتراضية/ مُصطنعة لم يعد من الممكن إلاّ اعتبارها “الجغرافيا” الجديدة. حيّز يسكنه جميع البشر بدرجات نفوذهم المتفاوتة جدا.

ومن تلك الابتكارات “المُطوّعة” أو المستعمرة  لبعضنا الآخر نذكر الآلات الذكية، والكائنات الافتراضية ذات الملامح البشرية.

اليوم، يقف الإنسان المعاصر قاتلا ومقتولا وسط ضوضائه ووجها لوجه مع “كائناته” المصنعة. يقف في قبضة “زمن ما بعد الحقيقة” المخملي الذي عكف على صناعته ونحت قوانينه منذ الآلاف من السنين، وشارك بطريقة أو بأخرى بإرسائه صيغة لعيش يتشارك فيه المزيّف مع الحقيقي دون نزاع يُذكر، ويحظر فيه الاصطناعي مع البشري ربما حتى فناء الأخير.

باختصار، وكي لا يصبح استخدام مقولة “زمن ما بعد الحقيقة” استخداما فولكلوريا، كما يحدث في العديد من الكتابات الصحافية، نورد الجانب الذي يعنينا مباشرة من تعريفها “زمن ما بعد الحقيقة، هو مصطلح للدلالة على الظرف الذي تفقد فيه الحقيقة مرجعيتها، وتصبح بلا جدوى أو أي تأثير”.

كما هناك رأي يتشاركه الكثير من علماء الاجتماع حول مواصفات هذا الظرف معتبرين أنه تظهير لـ”غرق الاجتماع السياسي العالمي من قمة رأسه إلى أخمص قدميه في عوالم افتراضية مبنية على المعلومات والصور الزائفة”. ويحيلنا هذا الكلام إلى الرائي والمفكر جان بودريارد في كتاباته المتمحورة حول موت الواقع الحقيقي تحت وطأة تمثيلاته ونسخته غير الأصلية أو تحت النماذج المتخيلة.

هذا “الظرف” أفرز فنونا تستخدم إما تقنيات ديجيتالية وتفاعلية أو توظف أفكارا تمظهرت في اللوحات وجوها بشرية هي أقرب إلى المخلوقات الفضائية المتخايلة أو الكائنات الغرائبية ذات الملامح المخيفة ببرودتها أو بمآسي تحولاتها إلى غير ما كانت عليه قبل أن تحل لعنة “الظرف” الفارض عليها شروطا للحياة. وهنا، نذكر على سبيل المثال أعمال الفنان صفوان داحول والفنان صادق الفراجي من جهة، والفنان خالد الحجار والفنان أكرم زافي من جهة أخرى.

مؤخرا بات هذا الظرف الذي “فقدت فيه الحقيقة مرجعيتها” منسجما مع السعي لابتكار آلات ذكية تفوق ذكاء الإنسان وقوته ليكون بعضها أكثر شبها به وبعضها الآخر ذا ملامح اصطناعية يتباهى باصطناعيتها كنسخة أفضل من النسخة الإنسانية قلبا وقالبا. كما ازداد الاهتمام بتمويل برمجة شخصيات افتراضية مضللة ذات ملامح إنسانية فائقة الدقة. ولعل فيلم “سيمون” للمخرج أندرو نيكول هو من الأفلام الأكثر تعبيرا عن خاصية “النسخ” غير الأصلية التي تجتاح عالمنا مثيرة فيه البلبلة وتبدّل جوهره في الصميم.

يبدو الفيلم أشبه بفيلم رعب معاصر يستعرض حالة الزيف والتكاذب المستفحلة في المجتمعات ويبحث في ثنايا اللقاء مع الافتراضي الذي صنعه الإنسان كي ينجو من كبواته، فإذا به سجين له. كما يأخذنا هذا الفيلم إلى أعمال الفنان السوري بشر كوشاجي، لاسيما في اللوحات التي رسم فيها شخوصا بوجوه مشفرة مشطوبة وكأنها بيانات ديجيتالية.

وعن هذه اللوحات يقول بشر كوشاجي “هي تعبير عن محاولاتي استرجاع ذكرياتي عن أشخاص عرفتهم في حياتي قبل اندلاع الحرب السورية”. ويضيف أنها تشكل بالنسبة له بحثا فلسفيا في معنى الملامح البشرية وقد خصّبها الزمن المفتوح وبعثر خصائصها البشرية المعهودة.

فيلم “سيمون” وباختصار يدور حول مخرج سينمائي لفيلم تخلت عن التمثيل فيه البطلة وفقد اهتمام الجمهور بأفلامه، غير أن هذا المخرج عاد إلى ذروة شهرته عندما استعان ببرنامج ديجيتالي مكنه من ابتكار امرأة/ ممثلة حطمت الأرقام القياسية في عالم السينما لتصبح “معبودة الجماهير”.

الفيلم يبحث بذكاء متوقّد في العلاقة التي جمعت المخرج بممثلته الافتراضية وصولا إلى مواقف دراماتيكية أفضت إلى قضايا تجريم وقتل متعمد، أُتّهم فيها عندما أراد لاحقا التخلّص منها.

ويسلط كلام مخرج فيلم “سيمون”، أندرو نيكول الضوء على عدة أفكار شديدة المعاصرة، إذ يقول “قدرتنا على صناعة الزيف تفوق قدرتنا على التعرّف عليه. نحن في حقيقتنا لم نعد مهتمين إن كان ما نراه زيفا أم لا.. يقول المخرج في الفيلم لممثلته الافتراضية: أنت أكثر حقيقية من الجمهور المأخوذ بك، وهنا تكمن المشكلة”.

ويضيف أندرو نيكول قائلا “يجب أن تعلموا بأنني في معظم أفلامي أستخدم الخدع البصرية في تشكيل ملامح الممثلين، أخفي الشوائب وأضيف أخرى.. سيأتي زمن لن يميّز فيه الجمهور ما بين الحقيقي والمزيّف. والأفظع من ذلك أنه حينها لن يبالي بالفارق ما بين الاثنين”.

البلبلة والنهايات التراجيدية للقاء الافتراضي بالحقيقي ليست جديدة إطلاقا، فالأساطير، لاسيما الإغريقية تعج بالقصص التي تبرز للمآسي الناشئة عن لقاء البشر بأنصاف الآلهة أو بالكائنات الخارقة، لذلك يصبح اليوم للإجابة عن هذا السؤال أهمية كبرى: إلى أي درجة نحن مستعدون لقبول الاصطناعي أو الافتراضي على أنه حقيقة لنتصرّف نحوه على هذا الأساس؟

العرب اللندنية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى