ميّ زيادة تلك الكاتبة المتفرّدة ثاقبة النّظر* مادونا عسكر

النشرة الدولية –

“يُخيّل إليّ أنّ آلهة اليقظة والنّشاط شاءت أن تتفقّد الشّرق حوالي منتصف القرن الماضي فنشأت فئة من فضليات النّساء على مقربة من الرّجال الّذين قُدّر لهم أن يكونوا عاملين في صرح الشّرق الجديد. فولدت عائشة عصمت تيمور في مصر سنة 1840م، وولدت في تلك الأعوام بسوريا وردة التّرك، ووردة كبا، ولبيبة صدقة وغيرهنّ. وولدت زينب فوّاز صاحبة “الرّسائل الزّينبيّة” و”الدّرّ المنثور” في صيدا سنة 1860م. وولدت في العام نفسه فاطمة عليّة ابنة المؤرّخ التّركيّ جودت باشا. وهي رغم كونها كتبت بالتّركيّةفإنّ لها الحقّ أن تُذكر بين أديبات العرب لأنّها عرفت لغتهنّ، وانتشر صيتها في أقطارهنّ، وعاشت طويلاً في بلادهنّ…”

بهذه السّطور البليغة استهلّت ميّ زيادة كتابها عن الشّاعرة اللّبنانيّة وردة اليازجي. وفي هذه السّطور وما تلاها من بحث قيّم عن وردة اليازجي، وفي نفس الاتّجاه عن عائشة عصمت تيمور وملك ناصف حفني (باحثة البادية) تتجلّى للقارئ شخصيّة ميّ كاتبة مقتدرة وقادرة على تحليل الشّخصيّة المراد الحديث عنها، وعلى تقدير عطائها وجعله في مرتبة عالية حتّى يتمكّن الجميع من التّعرّف إليها. وفي هذا الاستهلال إشارة إلى وعي ميّ بحضور المرأة الأديبة  الفاعل. فكأنّها تقول إنّ الشّرق يفتقد إلى جوهر الكلمة ما لم تحضر فيه كلمة المرأة. كما تبرز ميّ كناقدة تجيد استخراج الجمال ممّا اطّلعت عليه من شعر وفكر وأحاديث مطوّعة إيّاه بأسلوبها البليغ ومشتغلة على النّصوص، تبيّن جمالها ومضامين سطورها، كما تنتقد بصرامة ما يخالف تطلّعاتها وخبراتها وآراءها.

من جهة أخرى، ونحن نطالع الكتب الثّلاثة لميّ زيادة عن باحثة البادية وعائشة تيمور ووردة اليازجي، تتشكّل أمامنا شخصيّة ميّ الإنسانة الواثقة من نفسها، العارفة مكانتها من العالم المحيط بها ومن قريناتها من الأديبات بل ومن الأدباء. ففي هذه الكتب الثلاثة تتحمّل مسؤوليّة أدبيّة في تسليط الضّوء على أديبات ساهمن في بناء الصّرح الأدبيّ، حتّى وإن تمّ تجاهلهنّ وإقصائهنّ عن التّكوين الفكريّ الأدبيّ وعدم اعتبارهنّ مراجع أدبيّة يمكن الاستناد إليها.

إنّ عمل ميّ في هذه الكتب، وتحديداً، في كتابها “باحثة البادية”، علامة مميّزة أكّدت من خلالها ميّ وعيها الأدبيّ والإنسانيّ، فأظهرت لقارئ عصرها سمات أديبات تتفرّد كلّ منهنّ بأدبها. كما تظهر لقارئ اليوم  أهمّيّة تراثه الّذي ينبغي أن يُحفظ بالفكر والقلب حتّى يرتقي ويصبح بمصافّ الشّعوب المتقدّمة، لأنّ الشّعوب لا ترتقي إلّا بقدر ما تهتمّ بتراثها الأدبيّ والفكريّ والجماليّ.

عبّر العالم والأديب اللّبناني ومؤسّس صحيفة المقتطف يعقوب صرّوف عن أهمّيّة عمل ميّ في مقدّمة كتاب “باحثة البادية” بقوله: إنّ ميّاًنموذج جديد للنّقد في العربيّة بالأسلوب الّذي جرت عليه. فإنّها مهّدت لكلّ فصل من هذه الفصول، وختمته وعلّقت عليه من آرائها الخاصّة وأقوال أئمّة الكتّاب بما يدلّ على واسع علمها وبعد نظرها، وعلى أنّها جارت أكتب الكتّاب الأوروبيّين في هذا النّوع من البحث والانتقاد”. ما يعني أنّ ميّاً اتّخذت أسلوباً نقديّاً خاصّاً بها مع استنادها إلى مخزونها المعرفيّ، ووضعت من ذاتها داخل العمل. فحين تُذكر وردة اليازجي أو عائشة تيمور أو ملك حفني، تُذكر ميّ. ولعلّه بذلك يمكن القول إنّها طوّرت الأسلوب النّقديّ.

حين أرادت ميّ  أن تكتب عن أعمال باحثة البادية ووردة اليازجي وعائشة تيمور، ارتكزت بداية على السّمات الشّخصيّة لكلّ منهنّ، جسديّة كانت أم نفسيّة. وبذلك يكون نقدها قد استند إلى تحليل لحركات الجسد والتّأمّلفي الشّخصيّة وسلوكها ضمن محيطها ومدى تأثير هذا السّلوك في نوع الكتابة. فتذكر على سبيل المثال عن حضور وردة اليازجي الأدبيّ القويّ في عائلة أدبيّة. وتذكر ميّ أنّ شقيق وردة اليازجي الشّاعر الشّيخ ابراهيم اليازجي كان يصمت تهيّباً في حضور شقيقته فيكون لها الحديث وله الإصغاء. وإن ذكرت ميّ هذا الأمر فلترسم للقارئ شخصيّة وردة اليازجي وتأثير هذه الهيبة في العمل الأدبيّ. فتكون بذلك قد انتقدت العمل انطلاقاً من الشّخصيّة على المستوى الفكريّ والنّفسيّ مستخلصة من بين السّطور أهميّة أدب العمل المراد نقده. ما يعني أنّ نقد ميّ احتاج معرفة دقيقة للشّخص المراد نقد عمله، لأنّها تعتبر أنّ عصارة الوجدان والعوامل النّفسيّة والظّرفيّة تؤثّر في عمق العمل. والّلافت أنّ لميّ تعريفات نقديّة خاصّة تأتي على ذكرها في سياق الحديث عن الشّاعرة المصريّة عائشة تيمور. فتعتبر أنّ النّقد ليس ببلاغ عسكريّ يعلن الأحكام العرفيّة، ولا هو منشور أسقفيّ يحرم عضواً من شركة المؤمنين وشفاعة القدّيسين، ولا هو بأمر المعلّم القرويّ غضب على تلميذ مسكين لم يحفظ أمثولته كما ينبغي…

تفهم ميّ النّقد على أنّه نظرة فرد  معرّض للخطأ في عمل فرد آخر معرض للخطأ يختلف عنه ميولاً وكفاءة ووراثة. ما يدلّ على أنّ النّقد في مفهوم ميّ ليس تجاهلاً للأخطاء أو قبولها وغضّ النّظر عنها، وإنّما هو حالة من التّجرّد يدفع النّاقد للتّماهي مع المنقود والشّعور به وبكلماته ولعلّه يمكن القول بلوغ حالته أثناء الكتابة ليتمكّن الناقد من بلوغ أهدافه النّقديّة. وفي كتاب باحثة البادية تذكر ميّ شرطين أساسيّين ليكون النّقد مفيداً: الأوّل، أن يكون قوّة فطريّة مكتملة لا جزئيّة، والثّاني، أن يكون الإطّلاع والملاحظة والاختبار قد أوسعته تهذيباً وتصفية. والشّرطان لازمان متماسكان  إلّا أنّ الملكة الفطريّة أكثر ضرورة لأنّ وجودها يقبل المزيد والاتّساع.

إنّ ميّاً ناقدة بالفطرة وهذا منحها آفاقاً إبداعيّة واسعة. فالنّقد، في نظرها، موهبة فنّيّة تصقلها المعرفة، ويغنيها الاطّلاع والاختبار الشّخصيّ. وإلّا فكيف يمكن التّماهي مع المنقود إن لم يكن النّاقد قد اختبر ولو بجزء بسيط ظروفاً حياتيّة تؤهّله للتّوغّل في شخص الآخر؟ ومن اللّافت أيضاً أنّ ميّاً سعت بشكل أو بآخر إلى إعادة بناء مفاهيم قد تكون ملتبسة في ذهن الإنسان؛ كأن تشير إلى مفهوم التّعصّب في سياق الحديث عن باحثة البادية المسلمة المتمسّكة بالأصول والشّريعة: “سيرى فريق أنّ باحثة البادية كانت متعصّبة. ذلك ممّا لا ريب فيه وكيف ينتظر أن تكون غير متعصّبة؟ أليست بشراً، أو ليس التّعصّب من أشدّ العواطف ملاصقة للنّفس؟ حدّثوني عن تسامح من لم يكن متعصّباً لأضحك قليلاً!”؛ وبذلك إشارة إلى التّعصّب كسمة إنسانيّة أصيلة في الإنسان، إلّا أنّ ميّ نالت منها الجانب العميق لا السّطحيّ بمعنى التّشدّد الأعمى. وتضيف ميّ أنّ التّعصّب الجنسيّ والقوميّ والعلميّ والفلسفيّ والأدبيّ والاجتماعيّ والحزبيّ والفرديّ وتعصّبات أخرى لا أسماء لها تسير موكباً هائلاً سرّيّاً لا يبرز إلّا التّعصّب الّذي ننعته بالدّينيّ.من هنا يمكن الاستدلال على ناقدة تحيط بالعمل بجوانبه المتعدّدة وتسبر أغواره بهدف أن ترسّخ في ذهن القارئ مفاهيم تسهم في تطوّر وعيه من جهة، وبهدف تعميق النّظرة في العمل الأدبيّ من جهة أخرى.

وإنّ ما قيل في كتاب “باحثة البادية” يوم ظهوره سنة 1920 يحدّد لنا ملامح ميّ زيادة الأديبة والنّقديّة الّتي لم نرها على حقيقتها في أغلب ما كتب عنها. كأن يُعتبر كتاب باحثة البادية أوّل كتاب فيه نموذج للنّقد العلميّ، وأوّل كتاب في تاريخ سيّدة عربيّة وضعته سيّدة عربيّة. (مي زيادة: قطوف من التّراجم الأدبيّة)

ولا يتّسع المقال لذكر كلّ ما قيل في كتاب ميّ عن باحثة البادية، لكنّ ما يهمّني ويهمّ القارئ في ما ذُكر عن جلالة ميّ الأدبيّة وقوّتها الفكريّة وعلمها الواسع وبلاغتها الأدبيّة وتأثيرها في الوعي الأدبيّ، والأهمّ من هذا كلّه عينها النّاقدة وقلبها الّذي يرى ما لا يُرى وقدرتها على الإحاطة بمواضيع شتّى وضبطها حتّى لا يملّ القارئ، وحتّى يستفيد ويتجذّر في وعيه أهميّة وعظمة الكلمة.

لقد ظهرت ميّ في هذه الكتب الثّلاثة تحديداً أديبة من الطّراز الأوّل. أديبة متفرّدة وباحثة ثاقبة النّظر، دقيقة القراءة والبحث، واسعة الأفق، متحرّرة في عمق أعماقها. مع العلم أنّ ميّ لم تتمتّع بالحرّيّة كإنسان. تذكر الأديبة سلمى الحفّار الكزبري في كتاب “مي زيادة أو مأساة النّبوغ، ج1، ص326” أنّ والدة ميّ كانت تحظر عليها الخروج من البيت وحدها أو مع أصدقاء مقرّبين متقدّمين في السّنّ. كما يرى د.جوزيف زيدان في مقدّمة كتابه “الأعمال المجهولة لمي زيادة” أنّه ليس من قبيل الصّدف أن ينفضّ صالون ميّ بعد وفاة والديها، فقد كانا الواجهة الّتي تحتمي بها وتختفي وراءها. فميّ لم تكن لتستطيع أن تتمتّع بحرّيّتها حتّى ولو قُدّمت لها على طبق من فضّة، لأنّها كانت بنت ظروفها وبيئتها في نهاية المطاف. لكنّ افتقاد الحرّيّة الخارجيّة لم يفقد ميّ اتّزانها الفكريّ والنّفسيّ بل لعلّه زادها تحرّراً فكريّاً ونفسيّاً ومقدرة على معاينة الآخر من الدّاخل. فالحرّ من داخله، وحده يستطيع أن يبلغ عمق الآخر ويعترف له بالنّبوغ والجمال ويقدّره حقّ تقدير. ولئن  كانت ميّ حرّة فكريّاً وروحيّاً تمكّنت من الكتابة بعبقريّة عن أديبات عربيّات، ما لا تقدم عليه أغلب كاتبات اليوم. فنكاد لا نعثر إلّا نادراً على كاتبة عربيّة تكتب عن كاتبة عربيّة وتسلّط الضّوء على إبداعها في الشكل العميق الّذي قدّمته ميّ عن الأديبات الثّلاث. وأمّا السّادة الأفاضل الّذين يتحفون القرّاء بعناوين سخيفة عن ميّ زيادة لا تمتّ بصلة إلى أدبها، وبدل أن يردّدوا ما يقرؤونه هنا وهناك ويستبيحون سيرة ميّ زيادة، حريّ بهم أن يعودوا إلى أدبها وكتاباتها الّتي نحتاج إلى وقت طويل لقراءتها وتأمّلها وتبيّن عبقريّة هذه الأديبة الّتي لا ريب في أنّها أثّرت في محيطها الأدبيّ،ويمتدّ هذا التّأثير إلى العصر الحاضر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى