العراقي المُجنّح ينثر أثره في الخاصرة العربية* ميموزا العراوي

النشرة الدولية –

أمام دعوة مؤسّسة روزا لوكسمبورغ شتيفتونغ – بيروت والقيّمة رشا صلاح، بالشراكة مع دار النمر للفن والثقافة إلى افتتاح “عراقيات” يحلو التأمل بما يستطيع أن “يختصره” هكذا حدث عن بلد مسكون بالثقافة والفن حتى الفيض.

ذكرت الدعوة أن هذا الحدث يهدف إلى تسليط الضوء على المشهد الفني الحالي داخل العراق وفي الشتات عبر قراءات لمحمود درويش تقدّمها رائدة طه كتحية من فلسطين إلى العراق. وسيتبع الافتتاح محاضرة للشاعر والروائي سنان أنطون، ولقاء مع الفنان ضياء العزاوي وعرضا لعمله “الروح الجريحة”، إضافة إلى سلسلة من العروض السينمائية، يليها لقاءات مع مخرجين عراقيين بارزين. وتختتم الفعاليات بجلسة سماع موسيقية عراقية مع الناقد الموسيقي سامر المشعل، وبحضور الملحن كوكب حمزة.

ومن المتوقّع أن يجذب هذا الحدث عددا كبيرا جدا من الزائرين. أولا، بدافع “الحشريّة” للتحقّق من مدى قدرة مؤسّسة مهمة كدار النمر أن تحيط بما لا يمكن إحاطته بـ”عراق” تخطّى بغناه الحضاري ومن خلال شتات أبنائه حدوده الجغرافية.

أما السبب الثاني، فيعود إلى تعطّش عدد كبير من اللبنانيين وغيرهم لرؤية وسماع النبض العراقي في قلب بيروت بشكل مُكثّف وحصري، وهو أمر لم تشهده العاصمة اللبنانية من قبل، على الأقلّ في السنوات العشرين الأخيرة.

ومن المتوقّع أيضا أن هذا الأسبوع العراقي سينجح في التأكيد على أن أقوى الحركات الثقافية هي تلك التي تتبلور في أرحامها الأصلية قبل أن تخرج إلى العلن، أو تُخرّج قسرا كما حدث من خلال أفواج متعاقبة من الفنانين والمثقفين الذين اضطروا لمغادرة بلادهم إثر حرب الخليج، وسقوط النظام وتفشّي حالة الجنون الدموي الذي يبدو أنه يبلغ أشدّه مؤخرا.

سبق أن قُدّمت بعض السهرات المبعثرة التي سلّطت الضوء على إرث العراق الموسيقي، ونظم “معرض الفن العراقي” سنة 2012 في بيروت، ولكن لتبقى غير مرئية تماما أمام اجتياح الفن السوري المعاصر قبيل أن يستعيد الفن اللبناني وتيرة حضوره إلى جانب الفن الفلسطيني.

كما يجدر ذكر أن إقفال صالة عرض كبيرة منذ أكثر من سنة تديرها الفنانة العراقية ليلى كبة كعوش كان خسارة هائلة قد يخفّف من وطأتها تنظيم الأسبوع العراقي في دار النمر.

و”آرت سبيس” التي أقفلت أبوابها، كانت إلى جانب عرضها لأعمال فنانين عرب، متخصّصة بعرض الأعمال الفنية العراقية إلى جانب تنظيم نشاطات وقراءات حول الإبداع العراقي.

ربما يشاركني الكثيرون في حزنهم على إقفال الصالة، لأنها الوحيدة أو شبه الوحيدة التي سمحت لهم كلبنانيين رؤية أعمال لم يشاهدوها من قبل إلاّ على صفحات الإنترنت. كما أتاحت لهم فرصة التحدّث مع فنانين عراقيين حول ما يعني لهم أن يكونوا إما فنانين لا يتذكرون وطنهم بشكل واضح لأنهم كانوا صغارا عندما رحلوا، وإما فنانين لم يعودوا إليه منذ رحيلهم عنه.

أكثر ما تأثّرت به خلال السنوات القليلة التي واظبت فيها على زيارة “آرت سبيس”، هو اتصالي بذلك الزخم العراقي المعهود الذي لم تشتّته حداثة، ولم تفكّك أواصره حروب وأزمات متلاحقة.

وصلت إلى قناعة أن أبرز ما يميّز الفن العراقي المعاصر وما بعد الحداثي أنه ليس بالرغم من تأثره بتيارات الفنون الغربية ووسائطها ظلّ عراقيّا، بل أنه ومن خلال استخدامه لتلك الوسائط اجترح خلاصا استثنائيا من هلاك الهوية التي لا تعني له فقط، بل تعني البلاد المجاورة له.

بلاد يتعثّر بعضها في الحفاظ على كيانها الثقافي وبعضها الآخر يتخبّط ويهيم في التخلّي عن مخزونه الأصلي ليقع في الفراغ أو التقليد.

خلال “عراقيات” بوسع المهتمين التعرّف على أعمال تجهيزية للفنان ضياء العزاوي بعنوان “الروح الجريحة: رحلة الدمار”، وهو تحية إلى 450 أكاديميا عراقيا، اغتالتهم عناصر مجهولة في ظل زمن الاحتلال الأميركي.

كما يتضمّن حدث “عراقيات” تجهيز فيديو للفنان محمود العبيدي الذي له باع طويل في الفن التشكيلي بعنوان “الزي الرسمي”، وتجهيزا آخر متعدد الوسائط للفنان عادل عابدين بعنوان “العودة إلى المستقبل”، وفيلما يحمل عنوان “أيام مجنونة” يرصد فيه بطله اللاجئ العراقي الذي يتحوّل إلى شبح في فنلندا.

وعادل عابدين فنان ما بعد حداثي بامتياز لا يتوانى عن استخدام أيّ وسيطة ولا أيّ تقنية حديثة لإيصال فكرته. أول ما تعرّفت على عمله كان من خلال صور لمنحوتة طائر حاد البنيان. يمامة ناصعة، ولكنها أقرب إلى نوع أسطوري من الطيور. استوحى الفنان هذا العمل من قطعة شعرية لابن سينا يتحدث فيها عن الشبه ما بين اليمامة والروح. وجاء العمل كردة فعل على حادثة قتل 90 طالبا عراقيا بثياب غير تقليدية رجما بالحجارة من قبل أصوليين. ثم شاهدت للفنان معرضا فنيا في صالة “تانيت” البيروتية.

من يومها وأنا أتابع عبر صفحات الإنترنت ما يقدّمه عابدين من أعمال أرسى عبرها قواعد تعبيره الفني ما بعد الحداثي ومطلقَ نظرته إلى العالم من خلال منظار عراقي شفاف وصلب.

منظار تماهى مع عدسة المنفى ليرصّف معظم الجسور الذي مدها إلى الآخر بقطع زجاج جارحة صُقلت حوافها بعنف تحوّلات الهوية، تارة برياح صحراوية سوداوية مُطعمة بإبر السخرية، وتارة أخرى بعصف حنين ثائر على نفسه.

قدمت مديرة دار النمر رشا صلاح الحدث الثقافي على أنه “احتفالية بيروت ببغداد نيابة عن كل المدن”، وأضافت مستخدمة كلمات الشاعر محمود درويش عميقة الأثر قائلة “على أمل أن نتحول إلى بلاد.. فأصبح أنا بغداد وأنت القدس، ويميل رأسي على كتفك قليلا فتزهر دمشق ويستقيم العالم”.

العرب الدولية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى