شوقي يوسف فنان يسكب كائناته الذائبة على مساحة الوجود
ينقل الفنان اللبناني شوقي يوسف في معرضه الأخير “تسعة صباحات وثلاث عشرة ليلة طيبة”، كل ما تخلّفه الحروب والنزاعات من مشاهد الأشلاء والقتلى، إلى حيز الفعل الجمالي الإبداعي عبر أعمال تجريدية يطرح فيها استياءه ممّا جرى ويجري في العالم من قتل وسفك للدماء.
النشرة الدولية – ميموزا العراوي –
“تسعة صباحات وثلاث عشرة ليلة طيبة” هو عنوان معرض الفنان اللبناني المتعدد الوسائط يوسف شوقي المولود سنة 1973، أي قبل عامين عن شرارة اندلاع الحرب اللبنانية. لم يتسنّ لي أن أسأل الفنان عن معنى العنوان الذي وضعه لمعرضه في غاليري “أجيال” إحدى أعرق صلات العرض اللبنانية، ربما لأنني لم أكن أريد أن أعرف ما يقصد به تماما.
والزائر لمعرض شوقي سيبحث في لوحاته عن معنى ما يُعلّق عليه عنوان المعرض. وسيعثر على الأرجح على عُمر مدته ثلاث عشرة ليلة طيبة، غسل فيها الفنان وجهه من ليل منتصر أبدا على نهار لا يهمّه فيه إلّا انقسامه إلى تسع مرات عجاف. هكذا يكون معرضه سيرة “محسوبة” عليه تريد أن تشرعن حضورها المُبعثر في عالم قاس لم يعد يقدّم لنا، إلّا هواية درامية قوامها تعداد الأيام والليالي. تعداد مسكوب كماء مقدس في الفراغات التي رممت شخوصه الفضفاضة والمائعة التي تبنت حالة التحوّل كحالة دائمة لا قبلها ولا بعدها في أيّ مرحلة.
من يرى لوحات شوقي يوسف التي استخدم فيها مواد مختلفة يجد أن حالة التحوّل تمكنت منها حيرة قصوى بأن تكون أجسادا أو أرواحا أو انصهارا بين الاثنين. ومعظم لوحاته المتعددة الأحجام تبدو فيها الأجساد قد سكنت الروح وليس بالعكس. ولا يزال الفنان في معرضه الجديد هذا يتيح للمُشاهد أن يرى المراحل الزمنية والحركية/ العصبية والمُشكّلة للأفكار التي دارت فيها أجساد الفنان المتحوّلة.
يبرع يوسف في تظهير هذه الحالة الوجودية المعاصرة جدا برسمه للأجساد في أشكال كثيرة ولكن كلها ناطقة بغربة الذات عن الذات. أطراف تنتهي بدخان وأجساد تبدو وكأنها مصنوعة من شرقطات كهربائية دقيقة وبعضها الآخر يتكتل كمواد أولية يسكنها غاز كوني مُكثف. بينما تذوب شخوص أخرى حتى تستحيل مُسطحات شفافة تنسكب على “طاولة” الفنان النموذجية التي ظهرت في لوحاته السابقة كالعنصر الوحيد الذي يملك ثباتا ما حتى كاد ثباتها يكون الأجساد المادية الوحيدة التي تتلقى شظايا، الروح الضاجة بالمادة.
غير أن معظم شخوص الفنان تبدو وكأنها “تعقل” وتفكر في حركاتها الظاهرية من تلوّ ودوران وانبساط وتمدّد وتقلّص وكأنها لا تعثر لذاتها على شكل مريح تستطيع أن تستقر فيه.
ولعل أكثر ما يشير إلى ذلك هي “العُقد” والنتوءات المتصلبة والمتشنجة والدقيقة التي تقف في وسط شرايينها (خطوط تشكيلها) لتنفجر أحيانا مُبعثرة شظايا الجسد الواحد بهدوء درامي/ غرائبي، لأنه يبدو عاريا تماما من الشعور بالألم. لا رائحة لدماء راشحة بالرغم من استخدام الفنان وبكثرة للون الأحمر، ولا ذكر بصريا لمجريات ونتائج حروب شتى، بل سيرة لحياة عادية جدا.
تدخل فكرة الشر والخير إلى لوحات يوسف من الباب الواسع لتعمق من حيرة الناظر إليها. هل نُشفق عليها أو نتمنى لها الزوال؟
لوحات شوقي يوسف هي لوحات ميتافيزيقية من العيار الثقيل. تبحث وتستعرض أصول الكينونة؛ عدمٌ وتبلور وحركة ونمو فاندثار ثمّ ولادة جديدة.. حيث تحاول الأساليب الجديدة أن تكون، وأن تختبر علاقتها مع العالم الخارجي الذي قُذفت إليه، فنجدها في لوحاته تتمرّى أمام أرواحها وتتفاعل معها في آن واحد، تجريدية في صلب التشكيل. والتشكيل هو للروح أكثر منه للجسد الذي يرق ليُظهر دويّ الروح.
يبرع يوسف أيضا في استخدام تلاقي الشفافية وعدمها فتبدو بعض شخوصه أشبه بشرائح رقيقة قادرة على التصرف كأي جسد عادي: تجلس، تسير، تقف وتنام.
تذكّر لوحات يوسف بالحركة الفنية المستقبلية حيث تُرى مراحل تقدّم أو تراجع حركة الكائن البشري في لقطة واحدة. وكيف لا وعالمه لا يحدّده ولا يعرفه إلّا الغليان المتواصل على نار خفيفة؟
ليست أجساد الفنان شوقي يوسف إلّا مجموعة حوادث وقد تجمعت في لوحة واحدة. قد يرغب البعض في أن يرى في أشكاله البشرية وكأنها ما تبقى من مشاهدات ماضية، ربما ذكريات. ولكنها على الأرجح ليست كذلك. هي تميل أكثر إلى أن تكون حضورا وواقعا طاغيا في هلاميته وسيولة أشكاله.
بعض المشاهد التي رسمها الفنان تلحقها غشاوة وكأنها التقطت بعدسة مصوّر فوتوغرافي. وأخرى تبدو صورا “محروقة” ناتجة تقنيا عن فتحة عدسة آلة التصوير أكبر ممّا تستطيع تحمّله من ضوء منبعث إليها.
صحيح، أن لوحات شوقي يوسف متأثرة بفن إيغون شيلي وفرانسيس بايكون، ولكنها لا تنتمي إليهما إطلاقا من ناحية الرقة الشعرية. وهي بذلك، في هشاشتها الإنسانية تحيلنا أكثر إلى أسلوب الفنان الفرنسي جان دوغوتيكس المنتمي إلى التعبيرية الشعرية، والذي لم يرسم الإنسان، وإن رسمه فيرسمه كمشروع غير واضح البتة.
مع التنويعات التي قدّمها الفنان اللبناني في شخوصه تشترك كلها في ميزة واحدة وهي أنها تكاد تكون النسخة البصرية لأغنية “مُخدّر بشكل مريح” لفرقة بينك فلويد الشهيرة. غير أن “راحتها” في الخدر الوجودي لا تكدره إلّا لحظة الانبثاق الأولى لكل ألم جسدي لم يتعرف عليه الوعي بعد.
شخوص الفنان شوقي يوسف تستوطن “الطاولة” الغرائبية التي ترمز إلى أجسادها، أي أجساد الشخوص وإلى جسد العالم ككل.. وكأن شخصه يقول “هي هنا، جسدي هنا، أما أنا ففي مكان ما بين الاثنين”.
لقد تخرّج شوقي يوسف من الجامعة اللبنانية في بيروت عام 1994. وقدّم أعماله الفنية في العديد من المعارض الفردية والمشتركة داخل لبنان وخارجه. ويستخدم في لوحاته تقنيات ووسائل متنوعة منها المواد التلوينية المختلفة كالمائية والرسم، والفيديو، والأعمال التركيبية/ شبه النحتية.
صحيفة العرب