جسدي النحيل ما زال يُغريهم.. قصة الخادمة «دليلة»* بلقيس خليفة

النشرة الدولية –

تهالكتْ على الكرسي مُنهكةً، ثم تأفَّفت من شدة الحرارة وهي تنزع حجابها، وظلت تنشف به عرقها. ثم مدَّت يدها وقرَّبت فنجانها من شفتيها، ونظرت إليّ:

– لمَ تضعي فيها السكر؟

أومأتُ برأسي موافقةً، فأردفتْ وهي تبرم شفتيها:

– أريدها مرَّة… تعوَّدت طَعم المرارة في كل شيء.

بدت لي دليلة مُثقلة بهمومها هذه المرَّة أكثر من أي وقت مضى، ولم أشأ أن أسألها.

دليلة تكره أن يجبرها أحد على الحديث، أو على العمل… أو على القيام بأي شيء لا تريد القيام به وقتها.

أعرف دليلة منذ سنوات طويلة، التقيتها أول مرة عندما أرسلتْها إليَّ صديقة لأساعدها.

كانت تودُّ أن أرشدها إلى طريقة تجعلها تحصل على منحة تسندها الدولة لذوي الدخل المحدود، وتريد أن تحصل على بطاقة علاج مجاني.

فقد انقطعت دليلة عن الدراسة مبكراً، بسبب بُعد منزلهم الريفي عن المدرسة، وعملت مع والدها في الأرض حتى تزوجت أحد أقاربها وأخذها معه إلى العاصمة، لتقيم معه في منزل صغير بأطراف حي فقير.

لكن الزوج ما لبث أن أقعده مرض السرطان، فخرجت دليلة إلى سوق الشغل، لا تملك غير جهدها لتبيعه وتطعم الزوج المريض وابنيها منه وتتكفل بعلاجه؛ ومن ثم دفنه بعد موته الذي لم يستغرق وقتاً طويلاً ليحدث.

مات الزوج وتركها بلا معاش، تربي ولدين في منزل على سبيل الكراء، مضت أشهر على آخر تسديد معلوم كرائه.

كانت عائلة الزوج أفقر من أن تتوجه إليهم لطلب المساعدة، أما عائلتها فأبعد من أن تذهب للإقامة بينهم من جديد بطفلين، ودَّت أن يكون مستقبلهما غير ماضيها وحاضرها.

واشتغلت دليلة عاملة تنظيف بالمقاهي ثم طاهية بمطابخ شعبية صغيرة، وأخيراً اشتغلت مُعِينة منزلية.

واستطاعت في الأثناء أن تسدّد معلوم كراء بيتها، وأن تطعم ولديها، وتنفق على تعليمهما. والأهم من كل هذا أنها استطاعت أن تحمي نفسها من الطامعين في جسدها.

وتعجبت عندما زارتني أول مرة، من عزَّة نفسها وأنفتها عندما سألتها ان كانت ترغب في مساعدة مادية بدل انتظار راتب من الدولة قد لا يأتي، فردَّت وهي تكظم غيظها:

– أنا أعمل بكَدِّ يميني، ولا أحتاج صدقة من أحد، ولكني مريضة الآن ولم أعد قادرة على العمل كل يوم وسداد جميع المصاريف، أنا لا أتسول تكرُّماً أو هِبَة، لكن إن كان لديَّ حق عند هذه الدولة فينبغي أن أناله.

وحصلت دليلة على ما أرادت… راتب صغير وبطاقة العلاج البيضاء.

ثم قامت الثورة وانقطعت عني أخبارها أشهراً، حتى جاءت لزيارتي مرة أخرى، كانت قد نحلت كثيراً، وبدت كَذِئبة جريحة.

حدثتني عن الأيام الصعبة التي عاشتها أيام الثورة بعد أن عمَّت السرقة والنهب في حيّها، حدّثتني عن السلاسل الحديدية الكبيرة التي قيَّدت بها ولديها، حتى لا يخرجا من البيت في أثناء غيابها ويشاركا أبناء الحي في عمليات السلب والنهب، ثم انهارت باكية:

– قبضوا على ولدي أمس، عندما كان جالساً في المقهى، ونشروا صوره بإحدى المحطات التلفزية مع مجموعة من المنحرفين باعتباره لصّاً…ثم أطلقوا سراحه. ولدي لا يسرق.. نحن لا نأخذ ما ليس لنا.. ساعديني، أريد رفع قضية بالبرنامج الذي شهَّر به، أريد محاكمة صاحب القناة.

وأخذتها إلى إحدى المنظمات الحقوقية، وكان لها ما أرادت.

وغابت دليلة من جديد، واتصلت بها مرَّة لأسأل عنها، فأجابتني باقتضاب:

– أنا بخير، لكنَّ ولديَّ يفلتان مني..

ولم أشأ أن ألحَّ في السؤال، أعلم أنها متى رغبت في الحديث ستمرُّ عليَّ بعد عملها في أحد البيوت وتخبرني بما يثير قلقها، فهي تعتبرني صديقتها، وأنا أشجعها على هذا الاعتقاد، وأتعمد أن أشكو لها بعض مصاعب الحياة أحياناً، لتشعر بالأمان.

لهذا أنا لا أسألها الآن، أعلم أنها ستتكلم متى أرادت ذلك.

تشاغلت عنها بالعبث بهاتفي، فأخذت رشفة أخرى من القهوة ثم وقفت ورفعت ثوبها حتى فخذيها.

وقالت وهي تخبط على وركيها النحيلين:

– أخبِريني، ما الذي يمكن أن يثير رجلاً في هذين العَظْمَين.. قولي لي كيف يمكن أن يهتم رجل ثري بهذين النهدين الناشفين كحَبَّتَي تين مجفَّف؟!

وفتحت أزرار فستانها ومرَّرت أصابع يدها ذات العروق النافرة على عظام صدرها البارزة.. هل أبدو لهم مغرية حقاً؟

ولفَّت حول نفسها وهي ترفع ثوبها في حركة مسرحية، ثم مشت خطوات أمامي متصنِّعةً الغنج: «هل أبدو لهم مثيرة؟!».

فتداخلت رجلاها وكادت تقع على الأرض..

– ما زال ذاك الرجل يتحرش بك؟

سألتها وأنا أحاول كتم ضحكي..

– أووه لا.. ذاك الأحمق هددته بالضرب فخاف، قلت له: لن أشتكيك إلى زوجتك، لن أخسر عملي بسببك، لكن إذا ما حاولت الاقتراب مني ثانية فسأضربك، فخاف، وصار يغادر إلى المقهى كلما وصلت.

فانفجرتُ ضاحكةً وابتسمت دليلة بدورها واستمرت في الحديث.

– أنا أتحدث عن هذا العجوز العربي الذي أصبحت أشتغل عنده مؤخراً، لقد تعمَّد في المرة الماضية تسليمي نقودي، بينما كان ممدّداً في فراشه عارياً تحت اللحاف، فاتحاً رجليه كطفل خُتِن حديثاً! واليوم تعمَّد أن يقدم لي المال وهو في الصالون بينما كان يشاهد شريطاً إباحياً على شاشة تلفزيونه الضخم.

انتزعتُ منه النقود انتزاعاً وأنا أسدُّ أذني عن سماع التأوُّهات الفاسقة الصادرة من التلفزيون كمن يسدُّ أنفه عن رائحة قمامة. والغريب أنه لم يفهم غضبي، قال لي باسماً: «تعالي.. اجلسي ارتاحي شوي وشوفي العالم الحلوة كيف عايشين؟».

التفتُّ إلى الكتب المصفَّفة قدامه على الطاولة وقلت له: «كل هذه الكتب ولم تفهم ما الذي يُشترى وما الذي ما يُباع؟ نحن فقراء صحيح لكن موش للبيع».

أحببت ردَّها بصراحة، فسألتها وأنا ما زلت أحتفظ ببقايا ابتسامة على شفتيّ:

– سترجعين للعمل عنده؟

– طبعاً سأعود ولو كان راجل يلمس شعرة مني… محتاجة كل مليم منه، طلبات أولادي زادت، وخايفة يفلتون مني لو لم أوفر لهم ما يحتاجونه.

وأنهت دليلة فتجان قهوتها المُرَّة دفعة واحدة.

– آسفة، لم أسألك عن أحوالك.. ينبغي أن أغادر الآن، مشاغل بيتي وأولادي في انتظاري.. طمّنيني عنك بالهاتف أستاذة.

وغادرت سريعاً، طبعاً لم يكن بوسعي أن أسأل دليلة إن كانت تريد أن تشتكي أحدهم إلى الشرطة بتهمة التحرش، فقد نصحتها من قبلُ ورفضتْ، أخبرتني بأن القاضي لن يصدّق امرأة فقيرة شغّالة بالبيوت ويكذب رجلاً ثريّاً بمركز اجتماعي مرموق، وفي جميع الأحوال ستجد نفسها في كل مرَّة بلا عمل وهي في أمسّ الحاجة للنقود ولا تريد منّة من أحد.

وغابت دليلة من جديد وطال غيابها هذه المرة، حتى اعترضتني هذه الأيام تمشي ساهمةً، تحمل في يدها قُفَّة من السعف، حتى إنها لم ترني وأنا أتوقف أمامها تماماً، وألمسها من ذراعها، انتفضت مذعورة:

– لستِ بخير يا دليلة.. ما الذي يشغلك؟

سحبت ذراعها من يدي وهي تتحاشى نظراتي.

– اتركيني، ينبغي أن أذهب.

سألتها بعناد هذه المرَّة:

– إلى أين يا دليلة؟

وتداعت وهي تطأطئ رأسها خجلاً.

– إلى السجن (ثم أطلقت زفرة عميقة وأضافت)، ابني الصغير مقيم هناك، اشتكيته بنفسي إلى الشرطة، أخبروني بأنه صار يشارك أبناء الحي عمليات سطو على منازل الأثرياء القريبة من حيّنا، فحذَّرته بأني لو تأكدت من ذلك فلن أرحمه، منذ شهر تفطنت إليه وهو يتسلل ليلاً إلى البيت ويخفي أشياء مسروقة في الخزانة، انتظرته حتى نام وخرجت فجراً إلى مركز الشرطة، فاعتقلوه وهو نائم.. كان يصرخ وهو يستجديني أن أتراجع عن أقوالي. ولم أفعل.. غدرني وكسر عيني يا أستاذة. ابتلعت الذل سكاكين من أجل شرفي وشرفهم. طحنت الزجاج ومضغته حتى لا يحتاجوا ولا يمدوا يدهم لمال الغير. وغدروني.. وبعدين يجيك واحد ولا يسوى ويقلّك الشرف بين أفخاذنا.. طيب والتحرش والسرقة والكذب والغدر شرف ولا موش شرف… شرف ولا موش شرف؟!

كانت تتكلم بصوت عالٍ وهي تنظر حولها، كانت تريد أن يسمعها الناس. وخشيت أن تدخل في حالة هستيرية تصعب معها السيطرة عليها، فسحبتها جانباً، وهدّأتها وطيَّبت خاطرها، ووعدتها بأن أبلغ صوتها.

وعندما أنهيت كتابة هذا المقال اتصلت بدليلة:

– كتبت عنك مقالاً، وأردت أن أطلب منك الإذن في نشره باسمك.

– اكتبي يا أستاذة ونوّري العقول، أخبِريهم بأن الفقراء يؤمنون بالشرف أيضاً، قولي لهم إن الشرف ليس للنساء فقط، حدِّثيهم عن دليلة، قولي لهم: دليلة لم تكسر عينها بِنت ولا خانتها شهوتها، بل غدرها الولد.. قولي لهم: دليلة ما باعت، لكن باعوها.. باعها الغصن الذي منها تفرَّع و انكسر. وصار ذراع الفاس الي طعنها..

نقلاً عن عربي بوست

كاتبة وأستاذة أدب عربي بالمعاهد التونسية

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى