الثّورة لا تصنعها العواطف الجيّاشة والحماس العنيد* مادونا عسكر
النشرة الدولية –
كلّنا فاسدون ونستحقّ المحاسبة والمحاكمة من قمّة الهرم إلى أسفله، من الطّفل الّذي لم يولد بعد، لكنّه يحمل جينات الفساد، إلى الشّاب المفعم بالحياة المنطلق نحو الحرّيّة دون وعي، إلى الشّيخ المضمّخ بذاكرة الحروب والانقسامات وتخلّف عن غرز الوعي والاختبار، إلى رجل الدّين السّاكت عن الحقيقة الّذي يجنّد النّاس لتحقيق مآربه وتنفيث حقده، إلى المعلّم الّذي لا يؤدّي واجبه كمعلّم ومربٍّ ويستهتر بجيل كامل ثمّ يطالب بحقوقه، إلى الموظّف الإداري الّذي يقبل الرّشوة ويحتقر المواطن وينتهك كرامته من أجل عمليّة إداريّة بسيطة، إلى العامل البسيط والآخر المتخصّص، إلى الشّرطيّ المرتشي، إلى الّذين يدّعون الثّقافة وينشرون الغباء والتّفاهة والسّطحيّة، إلى الإعلام مقتنص الفرص الّذي يصحو فجأة على حرّيّة التّعبير بقدر ما يناسبه الواقع، إلى النّاخب المرتشي بحجة الجوع والفقر، إلى النّاخب الطّامح بالحصول على جنسيّة، إلى عبّاد الزّعماء المنجرّين كالغنم في قضيّة واهمة، إلى مدّعي كسر الحواجز الطّائفيّة المتربّصة بدمهم، إلى الغارقين حدّ الموت بالجهل والجلوس في المقاهي ينظّرون ويتبجّحون كلّما التقطوا جملة من هنا وهناك، إلى مدّعي الإيمان الّذين يكذبون على أنفسهم، إلى المتملّقين الّذين يحدّثوننا عن حرّيّة الرّأي والتّعبير، إلى المتحايلين على القانون وهم ذاتهم يطالبون بالقوانين، إلى المسؤولين المسعورين الّذين لم يهبطوا من الفضاء، بل أولئك الخارجون من النّاس إلى النّاس، إلى شعب صحا فجأة على المطالبة بالحقّ والحرّيّة والتّغيير وأرادها في الشّارع.
الشّارع وسيلة، وعندما يصبح غاية حوّل المجتمع بأكمله إلى فوضى مدمّرة يستفيد منها كلّ فاسد. الشّارع العنيد الّذي بنفسه أوقد المهرجانات الانتخابيّة وناضل من أجل أن يبقي زعيمه لأنّه يحقّق له مصالحه. الشّارع الّذي هو حقّ للجميع بحكم “حرّيّة التّعبير”، ويسمح لأيّ كان أن يستغل الظّروف ويحقّق شرّه، ويستعيد أمجاد الحربّ ويقف عند تقاطع الطّرقات ليمارس بشاعة قديمة دفينة في نفسه. الشّارع وسيلة لا أكثر، وعندما يصبح مترعاً بالنّاس بحجّة استرداد الوطن يمسي مغارة يأوي إليها اللّصوص. وغالب الظّنّ أنّ اللّصوص بيننا في ساحات الفوضى.
ثمّة خيط رفيع بين المطالبة بالحقّ ومصادرة حقّ الآخر، وخيط رفيع بين المطالبة بالحقّ والاتّجاه نحو الفوضى، بين أن تتظاهر وتحتجّ وتصادر الرّأي الآخر وتنتهك كرامته، بين الصّراخ والتّعبير عن الذّات. لا يمكن لشعب غارق في الجهل السّياسي أن يستفيق فجأة على الوعي به. ولا تستفيق الحكمة في مدّة زمنيّة قصيرة. فالحكمة مسيرة وعي طويلة يبنيها كلّ أفراد المجتمع.
الحقيقة في التّفاصيل الّتي لا نراها أو لا نريد أن نراها، في الطّيش المستشري وعدم الدّقة وملاحظة ما يتسرّب خلسةً. الصّورة جميلة ومبهرة لكنّها لا تدلّ على التّحضّر؛ لأنّ التّحضّر يكمن في الوعي والشّعوب لا ترتقي إلّا بالوعي وبمقوّمات الجمال. والوعي هو غير النّهوض من النّوم؛ إنّه البناء المتمدّد بأساساته الصّلبة في عمق الأرض والمرتفع المحلّق بقوّة العقل وضبط النّفس. التّسامح المفرط جميل، لكنّه تسامح يترادف ومبدأ غضّ النّظر إلى حين.
أن تكون مثقّفاً لا يعني أنّك تختزن المعلومات وتعيد إنتاجها وتعبّر عنها في الإعلام. أن تكون مثقّفاً يعني أن تعي ما تقول أوّلاً، وتحدّد مقدّمات لنتائج وتسعى لتحقيق الأهداف بالفعل لا بالقول والصّراخ في الشّوارع. أن تخطّط بصمت، وتركّز على ما يدور حولك وتتعمّق في التّحليل لا أن تجترّ ما يقوله فلان وعلّان.
أن تكون مواطناً حقيقيّاً يعني ألّا تدوس على أخيك المواطن وتنتهك كرامته لأنّك “ثائر”. أن تدرك أنّ الوطن ليس مجموعة شعارات وهتافات، وإنّما عمل دؤوب وجدّ واجتهاد وبناء للفكر، لتحارب بالفكر لا بالغريزة. أن تفهم أنّ الوطن ليس مقهىً تثرثر فيه تحت غطاء النّدوات والاجتماعات المعزّزة للوعي. لماذا لم تُقَم هذه النّدوات في الجامعات والمدارس لدرء خطر الجهل والنّفاق والظّلاميّة؟ لماذا لم يُبنَ الوعي لعقود طويلة لبناء مجتمع أفضل لا يوصل أشباه مسؤولين؟ أين كان الواعون المثقّفون الوطنيّون؟ ونتساءل: ما الّذي أيقظ هذا الشّارع؟ ومن يحقّ له أن يتظاهر ويحتجّ ويعترض؟ وما هي نسبة المطالبين الصّادقين؟
كلّنا فاسدون؛ أمام الضّمير الحيّ الّذي يتهجّى الوضوح والحقيقة. أمام العقل المدمّر الّتي تظهره الحقيقة الكامنة في التّفاصيل. أمام الكبت المتفجّر والتّخوين الّذي يهدّد العقلاء. أمام الوقت الضّائع هباءً الّذي سينتج جيلاً عقيماً، لأنّ الثّورة أوّلاً وأخيراً ثورة العقل والفكر، والتّغيير تقوم به النّخبة لا العوام. وعلى مرّ التّاريخ نشهد للتّغيير على أيدي الأفراد العاقلة النّقيّة الّتي حدّدت أهدافها وحقّقتها بجهد وجدّ.
كلّنا فاسدون ونستحقّ المحاكمة؛ فمن يجرؤ على محاسبة نفسه والوقوف أمام ضميره وأمام نفسه ويتبيّن أنّ الوضع الرّاهن يحتاج للعقل، وللعقل فقط، لا للعواطف الجيّاشة والحماس العنيد والصّراخ الّذي يصمّ الآذان ولا يسمح للعقل أن يتصرّف؟
من أراد التّغيير فليبدأ بنفسه أوّلاً.