الدين حين يكون ستارًا للعدوان* تاج الدين عبد الحق
النشرة الدولية –
يرى البعض أن وضع إيران وتركيا، في الخانة ذاتها التي توضع فيها إسرائيل، تجنٍّ على بلاد إسلامية، أو ممالأة لإسرائيل، التي يعتبرها العدو الأصيل، أو ربما الوحيد، الذي يستحق هذا التوصيف، ويحمل هذا التعريف.
ومع الإقرار بأن هناك فوارقَ تاريخية، وظروفًا سياسية أثرت على هذا التصنيف، إلا أن الوقائع والشواهد التي مرت بها المنطقة منذ مطلع القرن الماضي وحتى الآن تشير إلى أن الفوارق تتقلص، والهامش يضيق، بين من نعدّه عدوًا مؤكدًا وواضحًا، وبين من كنا نراه صديقًا وشقيقًا، لنكتشف بعد غفلة طويلة، أن كل شيء فيه يشي بالعدوان، ويتحفز للهيمنة والتوسع.
ومع تنوع وتعدد ما شهده الإقليم من حروب وكوارث، بقي هذا التصنيف، هو البوصلة التي تحكم علاقاتنا بالمحيط، فظلت قضية فلسطين وما تلاها من تداعيات، هي محور تقييمنا لعلاقاتنا بالمحيط الإقليمي، وأساس تحالفاتنا الدولية، وتغافلنا بقصد، أو دون قصد عن حوادث مفصلية، أظهرت أن هناك آخرين بين ظهرانينا، لهم مطامع، وسياسات، لا تقل في شرهها، وعدائها، عن إسرائيل.
ومع أن هناك من تنبه مبكرًا إلى عوامل الفرقة التي وضعتنا في مواجهةٍ مع دول إسلامية مجاورة، إلا أن تلك التنبيهات، والتحذيرات، لم تؤخَذ على محمل الجد، وظل الحديث عنها جزءًا من المماحكات السياسية والخلافات الأيديولوجية، والاجتهادات العقائدية.
ففي الخمسينيات وفي فورة المد القومي واليساري، صُنّفت إيران من قبل القوميين واليساريين العرب كقوة معادية، لا بالمعنى السياسي فقط، بل بالمعنى المادي الذي تمثل في اتهام طهران باغتصاب إقليم عربستان وضمه إلى الإمبراطورية الفارسية التي كان الشاه يسعى إلى إحيائها.
واستمر هذا التصنيف حيًّا خلال حقبة الستينيات وأوائل السبعينيات التي شهدت مواجهات حدودية بين العراق وإيران، انتهت باتفاق جائر لصالح إيران في شط العرب، قبل أن تتجدد تلك المواجهات وتتحول إلى حرب سافرة بين البلدين استمرت ثماني سنوات وراح ضحيتها ملايين من القتلى والجرحى والمشردين وخسائر بمئات المليارات من الموارد والفرص الضائعة.
لم يأخذ ذلك العداء، في تلك الفترة المبكرة، طابعًا سياسيًّا أو فكريًّا فحسب، بل عبر عن نفسه في إعلان شاه إيران نيته لعب دور الشرطي في الخليج، وفي إظهار مطامعه في البحرين، قبل أن تتجسد هذه المطامع واقعًا فعليًّا في احتلال الجزر الإماراتية الثلاث طنب الكبرى والصغرى وأبو موسى.
وكنا نعتقد أن هذه الصفحة ستُطوى مع انتصار الثورة الإيرانية في مارس من عام 1979، لنكتشف أن تلك الثورة ومخرجاتها، هي بداية لصفحة جديدة من العدوان ولكن بعنوان جديد، تمثل بإعلان النظام الأوتوقراطي الجديد نيته تصدير الثورة، تلا ذلك مباشرة عمليات إرهابية استفزازية، انتهت بالمحصلة إلى اندلاع الحرب العراقية الإيرانية والتي تورطت فيها بشكل غير مباشر الدول الخليجية الأخرى، بعد أن أدركت هذه الدول أن انتصار إيران في الحرب على العراق سيمهد لحرب أخرى على دول الخليج ذاتها.
ومع أن مشروع تصدير الثورة، فشل من حيث الشكل، إلا أنه بقي حاضرًا في الذهنية الإيرانية ويتربص بالمنطقة، ويتحين فرصة التنفيذ. وما إنْ حانت الساعة حتى وجدنا إيران تستغل الفراغ الذي أحدثته الحرب الأمريكية على العراق، لتتمدد هناك وتتغلغل في نسيج المجتمع العراقي، حتى أصبحت خلال سنوات قوة احتلال حقيقية يتقرر من خلالها، ووفق إرادتها الكثير من القضايا المتصلة بحياة العراقيين ومستقبلهم.
ولم تكتف طهران بهذه الغنيمة، حين وجدت في ثورات ما عرف بالربيع العربي فرصة، لإحياء مشروعها الأول وهو تصدير الثورة، وبدأت سلسلة من التدخلات في الشؤون الداخلية للعديد من الدول العربية، واستطاعت أن تجد لها موطئ قدم في سوريا ولبنان، فيما حاولت زعزعة أمن المملكة العربية السعودية من خلال التدخل في شؤون البحرين وبعمليات التحريض في المنطقة الشرقية، فضلًا عن التدخل في اليمن من خلال جماعة الحوثيين.
وبالمحصلة وجدنا أنفسنا في حرب مفتوحة مع إيران على بضع جبهات، ووجدنا أن مجموع ما خسره العرب من مناطق جغرافية على شكل احتلال مباشر، كعربستان والجزر أو نفوذ كبير كما في العراق وسوريا ولبنان، أو تهديد عن بعد كالتهديد الذي تتعرض له دول الخليج واليمن، هو أضعاف ما لحق بالعرب من خسائر على يد العدو الإسرائيلي.
إلى ذلك كله فإن نزعة التطرف في عالمنا العربي، وجدت زخمًا كبيرًا منذ اعتلاء الملالي في إيران مقاليد السلطة هناك، إذ بدأوا ببث خطاب طائفي مذهبي تحريضي، يستفز المذاهب الأخرى في المنطقة، قبل أن يتحول هذا الاستفزاز إلى حروب طائفية مقيتة.
تركيا هي مثل آخر من الأمثلة التي تجنب كثيرون تصنيفها ضمن قائمة الدول المعادية، رغم التاريخ العثماني الأسود في العالم العربي، ورغم قيام تركيا العلمانية باغتصاب إقليم الإسكندرون السوري، ورغم احتلالها أخيرًا لمناطق في سوريا بذريعة دعم المعارضة السورية؛ ليتبين لاحقًا أن كل ما قامت به استهدف حماية حدودها الشمالية ومنع قيام دولة كردية.
الإشارة إلى إيران كعدو وتركيا كعدو، لا يعني تبييض صفحة إسرائيل، ولا يعني استبعادها من قائمة الأعداء، واستبدالها بأعداء جدد، بل هو محاولة لتأصيل وتحديد مفهوم العداء، وتوحيد المصطلحات التي نتج عن الخلط بينها، نوع من الغفلة عن مصالحنا الوطنية، وانحراف في مؤشر البوصلة عن الذين يضمرون لنا العداء، ويعملون على انتهاك استقلالنا وكرامتنا، باستغلال الدين كتقية لمطامعهم، أو ستار يخفي نواياهم الحقيقية.
نقلاً عن موقع “إرم نيوز”