الذات الإلهيّة بين العلم والعبادة* مادونا عسكر
النشرة الدولية –
تكمن هوّة عظيمة بين العلم والعبادة كتلك الموجودة بين الكمال والنّقص. وملايين السّنين الّتي مضت والأخرى الآتية تسهم في اتّساع هذه الهوّة ما لم يتيقّن الإنسان أنّ الوجود الإلهيّ الخارج عن الزّمان والمكان، مغاير تماماً للوجود الإنسانيّ. وكلّ فكر يؤكّد علمه بهذا الوجود الإلهي أو يحتكر الحقيقة لشخصه أو جماعته يعيق التّأمّل وتطوّر الفكر ونموّه بحكم السّيطرة على العقول وإشغالها بصراعات تافهة مع أنّها تبدو مصيريّة. وهي تافهة وسطحيّة قياساً على الرّؤية التّأمّلية بهذا الوجود، والأكوان المحيطة بنا، وحضور الإنسان الهزيل في هذه الأكوان، وعدم قدرته على استيعابها، ورؤيته الملتبسة لها. ولئن كان الاستيعاب العقليّ والفكريّ للوجود المادّيّ ضعيف فلا ريب أنّ القدرة على استيعاب الوجود الإلهيّ أضعف، بل معدوم إلّا من خلال التّصوّرات العقائديّة الّتي بالكاد تقدّم تمتمات عن الحضور الإلهيّ. وبقدر ما يعي العقل أنّه عاجز عن إدراك هذا الحضور بتمامه، وبقدر ما يقتنع بأنّ الدّخول إلى عالم الوجود الإلهيّ اختبار شخصيّ وعلاقة عميقة لا يمكن تفسيرها أو تأكيدها بالأدلّة القاطعة، لأنّ الدّليل مشخّص ومرتبط بين الإنسان والله، تتهاوى الصّراعات والنّزاعات الّتي يقودها الإنسان بشكل عام باسم الله.
لعلّ انكباب العقل على محاولة إدراك الجوهر الإلهيّ وإصراره على معرفته اليقينيّة يضلّ عن الطّريق الصّحيح الّذي يقود إليه. ولعلّه ليس مطلوباً من الإنسان أن يعرف جوهر الله أو الاجتهاد في فهم هذا الحضور الإلهيّ فهماً عقليّاً. وإنّما المطلوب محاكاته في العمق بلغة أخرى غير تلك الّتي يتوجّه بها الإنسان إلى الله وكأنّه يعرفه تماماً. يقول القدّيس يوحنّا فم الذّهب: “ليست طبيعة الله غير مدركة وحسب، بل عنايته بنا وتدابيره فوق إدراكنا”. الإنسان أمام محيط واسع جدّاً وعميق جدّاً، وما هو إلّا نقطة لا تقوى على استيعاب المحيط بأكمله. فالنّقطة تعي ذاتها بقدر ضئيل، لأنّها تدرك كينونتها الظّاهرة. وأمّا إدراكها الكامل والعميق لذاتها غير ممكن لأنّها مرتبطة بالمحيط. وبقدر ما تتوغّل في عمقه تستشفّ بعضاً من كينونتها. ما يذكّر بنصّ لمحيي الدّين بن عربي في الفتوحات المكّيّة:
لو علمته لم يكن هو،
ولو جهلك لم تكن أنت:
فبعلمه أوجدك،
وبعجزك عبدته!
فهو هو لِهُوَ: لا لَكَ
وأنت أنت: لأنَت ولَهُ!
فأنت مرتبطٌ به،
ما هو مرتبطٌ بك.
الدّائرة مطلقةً
مرتبطةٌ بالنّقطة
النّقطة مطلقةً
ليست مرتبطة بالدّائرة
نقطةُ الدّائرة مرتبطةٌ بالدّائرة.
الـ “هو” الّذي لا يحدّه اسم أو حضور أو زمان أو مكان، الخارج عن محدوديّة الفكر الإنسانيّ يتعارض وأيّة صورة أو تصوّر يمكن تكوينه عنه. إنّه الـ “هو” الّذي ليس مثله شيء. وإذا كان هو الّذي هو لا يشبه أيّ شيء يمكن من خلاله الاستدلال عليه فالتّصوّر عنه يبقى ملتبساً أو ناقصاً. فالعلم به ليس علماً به بل بتصوّر شخصيّ عنه. والتّأكيد على اليقين المعرفيّ عنه يتنافى وقدرة الإنسان الفكريّة على تحديد جوهره أو طبيعته، لأنّ النّاقص لا يحدّد الكامل. وبحكم أنْ ليس مثله شيء تنبغي محاكاته بتجرّد فكريّ وقلبيّ. ويعتمد هذا التّجرّد على البحث التّأمّلي في الكائن الّذي ليس مثله شيء بعيداً عن كلّ شيء ندركه بالحواس أو بالعقل بحكم المحدوديّة والنّقص. هذا الوجود المتفلّت من كلّ شيء والحاضر والحاضن لكلّ شيء يفترض محاكاة متفلّتة من كلّ شيء. ولعلّ الأنا الإنسانيّة العميقة لا الظّاهرة قادرة على هذا التّأمّل، لأنّ في هذه الأنا ما هو أبعد من كينونتها الظّاهريّة، وفي عمقها وجود يخترق الحدود، وهو الوجود العالم بها. ولو كان غير عالم بها لما وجدت.
لو علمته لم يكن هو،
ولو جهلك لم تكن أنت:
فبعلمه أوجدك،
وبعجزك عبدته!
عبد الإنسان الله انطلاقاً من ضعفه وعجزه ما لا يقوده إلى العلم به. وأمّا الّذي اختبره في أعماقه، في الأنا المتفلّتة من الحدود سلك سبيل الذّوبان فيه. فعرفه بقدر ما عرفت الأنا حضوره في عمقها. وأمّا “هو” فبعلمه أوجد الإنسان، وعلمه عشق بذاته يفوق الإدراك. لذلك فالإنسان مرتبط به بحكم العلم الإلهيّ الّذي أوجده. لكنّ الله ليس مرتبط بالإنسان لأنّ الله هو العشق/ المحيط الحاضن لذرّة عشق، الإنسان.
الدّائرة مطلقةً
مرتبطةٌ بالنّقطة
النّقطة مطلقةً
ليست مرتبطة بالدّائرة
الذّات الإنسانيّة مرتبطة بالذّات الإلهيّة من حيث حرّيّة العشق، فالعشق غير مشروط وغير مقيّد وغير خاضع لظروف ولا يتضاءل، بل إنّه يمضي ويستعر حتّى تضيق الذّات بذاتها. فالعشق الإلهيّ فيض في العمق الإنسانيّ يعمل في أغوار النّفس ويجذبها إليه. فدائرة العشق مطلقة مرتبطة بذرّة العشق/ الإنسان. وعمق الإنسان ذي النّفحة الإلهيّة مطلق مرتبط بالمعشوق الإلهيّ. (نقطةُ الدّائرة مرتبطةٌ بالدّائرة).