هل يجرح البريكست القطاع المالي البريطاني جرحًا غائرًا؟

النشرة الدولية –

على ضفاف نهر التايمز في عاصمة الضباب لندن يمكن لشركة متعددة الجنسيات أن تبيع 5 مليارات سهم في غضون عشرين دقيقة فقط، ويمكن كذلك لشركة ناشئة من الولايات المتحدة أن تلتقي بمستثمرين من الصين من أجل تمويل توسعاتها القادمة بكل سهولة. وبينما تستمر مياه التايمز في التدفق بالعاصمة العتيقة التي ما زالت تحتفظ بطابعها الإمبراطوري، تقف اليوم مياه القطاع المالي البريطاني في مواجهة شبح الركود.

فمنذ يونيو 2016 حينما أصبح البريطانيون على علم بأنهم سوف يغادرون الاتحاد الأوروبي، جرت مياه كثيرة في القطاع المالي في بريطانيا. فالخبراء الماليون والاقتصاديون منقسمون حول كلفة الخروج من التكتل الأوروبي، وتأثير تلك الخطوة على الاقتصاد البريطاني بشكل عام وعلى القطاع المالي بشكل خاص.

يخاف الكثيرون من تأثير البريكست على الصناعة المالية التي تشمل شركات إدارة الأموال، والبنوك، وشركات الائتمان والتأمين وصناديق الاستثمار وشركات الوساطة وغيرها، وذلك انطلاًقا من الدور المهم الذي يلعبه هذا القطاع في الاقتصاد البريطاني، حيث يساهم بما يقرب من 12% من إجمالي الناتج المحلي في المملكة المتحدة، وفي نحو أكثر من مليوني وظيفة.

اعتبرت لندن في أوقات كثيرة البورصة الأهم في العالم بعد نيويورك ، حتى منافستها مع البورصات الآسيوية الكبرى مثل هونج كونج  كانت شبه محسومة. فالبريطانيون يعتمدون على أصدقائهم الأوروبيين في استمرار حيوية ونشاط بورصتهم، ولكن يبدو أن الحال آخذة في التغير بعد البريكست.

فمنذ ظهور نتيجة الاستفتاء في منتصف 2016 نقلت أكثر من 300 شركة تعمل في القطاع المالي في لندن مقراتها لدول أوروبية أخرى. يشير أحد التقديرات إلى أن ما يعادل 1 تريليون دولار من الأصول قد يغادر بريطانيا مع تلك الشركات.

اعتمد القطاع المالي في لندن طوال السنوات العشرين الأخيرة، على قدرة لندن على جذب المزيد والمزيد من الشركات الكبرى والبنوك التي تساهم بدورها في انتعاش أكبر للقطاع. كان رجال الأعمال من فرنسا وإيطاليا والصين وغيرها من المراكز الاقتصادية المهمة في العالم يلتقون في لندن التي تمتلك بنية تحتية مالية وتكنولوجية جيدة من أجل تسهيل أعمال هؤلاء.

 

يشير أحد التقارير البحثية الصادرة عن مركز New financial  والذي يتخذ من لندن مقرًا له إلى أنه من المرجح أن يقود البريكست القطاع المالي في لندن إلى طريق معاكس للذي سلكه في العشرين سنة الأخيرة التي شهد خلالها القطاع معدلات نمو معتبرة.

ما الذي يدفع كثيرين للهرب من لندن؟

في ظل تعثر المفاوضات بين بروكسل ولندن حول اتفاق الخروج من الاتحاد الأوروبي، وتعثر مفاوضات الحفاظ على تميز القطاع المالي في لندن عن منافسيه في أوروبا والتوقعات الحالية باتجاه الخروج دون اتفاق تتزايد المخاوف حول مستقبل القطاع المالي في لندن.

يخاف الكثيرون من هذا المستقبل المظلم لأن الشركات ببساطة تعتمد بشكل رئيسي على خدمات إصدار جوازات السفر لموظفيها ومديريها التنفيذيين مما يضمن حرية وصول هؤلاء لأي جزء من الاتحاد الأوروبي ما دامت لندن عضوًا بالتكتل الأوروبي.

على سبيل المثال يمكن لمدير صندوق تحوط ، أو مدير استثمار في بنك صيني أو ألماني أو أي شركة عالمية أن ينتقل ببساطة بين دول الاتحاد الأوروبي ولندن دون الحصول على تأشيرة سفر. يقلل هذا من الوقت اللازم لممارسة الأعمال والذي يعني المزيد من الربح، فالوقت في القطاع المالي يمثل ربحًا بحد ذاته.

أيضا يخاف الكثيرون من عدم وضوح البنية التنظيمية للقطاع المالي بعد البريكست، فبعد تعثر المفاوضات لا يعرف أحد ما الذي سيحل بالبنية التنظيمية الخاصة بلندن والخاضعة لمراقبة الاتحاد الأوروبي. تحتاج لندن إلى إعادة التفاوض بشأن اللوائح والقواعد الخاصة بالاتحاد الأوروبي. وفي ضوء أن تلك الإجراءات قد تستغرق وقتًا طويلًا من المرجح أن ينفد صبر العديد من الشركات العاملة بالقطاع المالي البريطاني.

النقطة الأخرى التي تخشاها الشركات المالية هي مخاطر التغير الوشيك في قوانين العمل والهجرة الذي من المتوقع أن يتم حسمه بعد اكتمال عملية الخروج. تعتمد لندن في قطاعها المالي على أعداد كبيرة من الأجانب التي من المتوقع أن تتأثر بشدة بقوانين الهجرة الجديدة إذا ما قررت حكومة بوريس جونسون تشديدها.

هل يمكن أن تفقد لندن مكانتها المالية؟

على الرغم من كل تلك التخوفات إلا أن العديد من التحليلات ترجح أن يكون التأثير السلبي للبريكست محدودًا على القطاع المالي، متوقعة أن التأثير السلبي قصير المدى. لكن مع الوقت إذا سرعت لندن من عملية التحول واستطاعت إنشاء بنية تنظيمية أسهل تشمل رقابة أقل على القطاع المالي وتسهيل لقوانين الهجرة وتأشيرات العمل للعاملين في القطاع المالي فإن ذلك من شأنه أن يحافظ على الوضع المميز لمدينة لندن خلف نيويورك كمركز مالي للعالم.

هناك الكثير من التنبؤات أيضا حول الوضع الجديد للندن والذي يتوقع أن يشبه الوضع السويسري، الذي من شأنه أن يمنح لندن مزايا الوجود في الاتحاد الأوروبي للقطاع المالي كما هي الحال في سويسرا وبالتالي يمكن ألا يتأثر القطاع المالي بشكل كبير.

نجت لندن كمركز مالي للعالم من الحرب العالمية الأولى والكساد الكبير في الثلاثينيات والحرب العالمية الثانية ونجت كذلك مؤخرا من الأزمة المالية العالمية في 2008 ، ولذلك ليس من المستحيل أن تنجو من تبعات البريكست، غير أن هذا لن يمر من دون كلفة كبرت أم صغرت على صناع السياسة ورجال الأعمال في مدينة الضباب.

المصادر: مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة – الإيكونوميست – نيوفاينانشيال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى