نبوءات: نصوص خارج الإطار

النشرة الدولية –

الفكرة هي قوام الأعمال الأدبية بإختلاف أنواعها، وإذا غابت الرؤية في طيات النصوص الإبداعية ستخسرُ كثيراً من زخمها وقوتها المُقنعة. هذا لا يعني بأنَّ الشكل والترتيب ليس له دورُ في تكوين الأثر الإبداعي بل يتحول المستوى البنائي في حياكة العمل الأدبي إلى عنصرٍ مؤثر ويزيدُ من توهج الفكرة والمحتوى وغالباً ما تطلبُ الفكرة إنزياحات في الشكل وطريقة التعبير، وهذا ما مرَّ به الأدبُ بكل صنوفه في المراحل التاريخية إذ ظهرت أشكال تعبيرية جديدة كما تداخلت الأجناس الأدبية بحيثُ لمَ تعد الهوية الإجناسية حاجزاً للتواصل بين الأنواع الأدبية، فبالتالي أصبج النص المفتوحُ والمُتفاعل بدون التأطير خياراً إبداعياً.

طبعاً مع الإنفتاح على ثقافة الآخر وتراثه يكونُ التجريبُ في الكتابة عاملاً للتحرر من الأشكال المألوفة. ولولا التواصل مع الثقافات الأخرى لكان من الصعب بمكان أن ينطلق الشعر العربي نحو مرحلة جديدة إذ أضاف جيل من الشعراء صيغاً وتعابير جديدة إلى المعجم الأدبي وبذلك تجددت اللغة الشعرية كما غدا النص الشعري غير مقيد بأغراض معروفة في الشعر الكلاسيكي إنما أفقه أوسع من أن يحدهُ شكل أو قوالب معينة لذا تجدُ المُفاجأة والعفوية من العناصر الأساسية في الشعر الحديث. صحيح قد أتاح تطور مفهوم الشعر وإختراق القواعد المُتواضع عليها في الكتابة الشعرية المجال لأصوات مُنتسبة إلى هذا الفن غير أنَّ ذلك لا يحجبُ النصوص المُعمدة بروحية إبداعية عالية تُخاطبُ العقل بما يحملُه من الأفكار وتثير المخيلة  بحراراتها العاطفية وهذا ما تمكنت الشاعرة الفلسطينية ريم غنايم من إنجازه في وصفتها الشعرية المعنونة بـ “نبوءات”.

لا تبتعدُ كتابات ريم غنايم عن التراث الصوفي لاسيما على مستوى سبك الكلمات وميلها إلى تناثر شذرات قد تبدو متفرقة غير أنها مترابطة في الرؤية

يتضاعفُ دور العنوان في رحاب الشعر ويكون بمثابة مرآة كاشفة للمسارات والرؤى الفكرية للذات المبدعة كما لا تخلو مفردة العنوان من جنوح المراوغة واللعبة بين سيرورة الدوال اللامُتناهية. تُدركُ غنايم إرتدادات مفردة العنوان وظلها المُنبسط على جسد النص لذلك تُمثلُ عتبةُ العنوان في مجموعتها الشعرية الأولى خطاباً مُكتنزاً بالدلالات المُحيلة إلى المجالات الفلسفية والميثولوجية والتاريخية فتعودُ بك تارة إلى الكهنة الذين كانوا يتنبؤون بالغيب ونسبت إليهم الحكمة والخوارق. كما توهمك تارة أخرى بأنَّ ما تضمه دفتا الغلاف عبارة عن توقعات لأيام قادمة على غرار ما فعله الفرنسي نوستراداموس.

ولا يقف المكرُ عند العنوان الخارجي بل يجنحُ إلى العبارات التي تشاركه تشكيل الخطاب وبناء المنظومة الدلالية التي هي وليدة للعلاقة التجاورية بين الكلمات، تتصاعدُ حدة المفاجأة عندما تنضمُ مقولات إنكليزية إلى برواز العتبة. منها مقولة الشاعر الإنكليزي جون دوي “أنا عالم صغير خُلق بمكر”، وما تنطقه أجمل الكاذبات “إضطراب داخلي، أسر، سبي نبيل وكلمات خاوية” قبل ذلك توجدُ جملة متساوقة مع ما سبق الإشارة إليه “أرى وجهي في نهر يتماوج”. هذا إضافة إلى إقتباس عبارة ناجي رحيم “كأني مجسات تلعق دبيب كائنات تحفر نخاعي”. واللافت أن هذه المقولات تجمعها بنية أسلوبية ودلالية متقاربة.

ضف إلى ذلك يكمنُ وجه آخر للمكر الأسلوبي في المقطع الذي يلي العتبات بعنوان “هذا الشعر ليس لي” إذ يضع القاريء أمام  سؤال محوري هل أرادت الشاعرة بذلك محاكاة البنيويين والإيحاء للمتلقي بضرورة الفصل بين النص والذات المبدعة؟ وما يتواردُ في هذه المساحة عبارات خاطفة تدور حول القصيدة وإنشطاراتها وفوضويتها. وما يترشحُ في هذا السياق يؤكدُ محاولات لتثوير بنية اللغة والإنتقال بالقصيدة إلى مستوى جديد “القصائد موت. موت تجريبي. شكوك. شرور” هذه الكلمات تفصح عن رؤية مغايرة للفعل الإبداعي الذي لا ينفصل عن مفهوم الموت والأغرب ما يتضمنهُ المقتبس هو فكرة الموت التجريبي وهذا ما ينمُ عن جنح المخيلة يصل بالتجريب لتخوم الموت. ومن المعلوم أنَّ الوقائع كلها قد تتخذ صفة التجريب سوى الموت يُذكر أنَّ ريم غنايم تنحتُ صورها الشعرية مما هو مهملُ ومنسي وهذا ما يضفي الغرابة إلى نصوصه “أفيق كيقظة الرماد في ظله” ثمَّ تعقبُ على هذه الصورة بما هو أكثر غرابةً “الوجوه صارت نيئةً، وتماثيل عتمةٍ مأكولة، وشخير المساءات يترنح على عتبة” أزيد من ذلك يطيبُ للشاعرة العدول عن النسق اللغوي المتداول وكسر البنيات السائدة “لا تصححني إن أخطأت، دعني أنغمس في الخطأ ماشئت” هكذا ترومُ غنايم تأثيث عالمها من خلال إعادة تشكيل اللغة.

سؤال المرجعية هو يدور الحديثُ بشأنه خلال مقاربة المنجز الإبداعي، ومن المعلوم بأنَّ ثقافة المبدع ومُتابعاته تعتبرُ رافداً رئيساً لتأسيس الفرادة والخصوصية إذاً لا يمكنُ إرتيادَ أفق إبداعي جديد دون وجود خلفية ثقافية داعمة إضافة إلى المغامرة الإبداعية جربت ريم غنايم تذوق طعم نوع مختلف من الإبداع من خلال ترجماتها للمؤلفات الشعرية والروائية لتشارلز بوكوفسكي حيث نقلت للأخير أجمل نساء المدينة ومكتب البريد فضلاً عن ترجمتها للمدمن والغذاء العاري لـ وليام س . بوروز، وذلك مكنتها من صياغة لغة مشحونة بغضب ناعم تنمحي الحدود في عالمها بين الخطيئة والطهر “أنت الحر كالخطيئة كاللعنة، عذب نفسك ما استطعت عذبها نفسك الطاهرة كالخطيئة”.

ولا تبتعدُ كتابات ريم غنايم عن التراث الصوفي لاسيما على مستوى سبك الكلمات وميلها إلى تناثر شذرات قد تبدو متفرقة غير أنها مترابطة في الرؤية “ما زلت على حالي مكاناً بلا ظلٍ يستر عورة الأرض” هذا التضخم الأنوي يذكرك بالتماهي مع المطلق وما هو مثير للإنتباه في العناوين الداخلية إختيار العبارات الأجنبية والتفاعل المباشر مع المفردات الواردة في النصوص المقدسة والكلمات المحمولة بدلالات أسطورية وتاريخية “شمشون، إبوشكا، ابشالوم” وفي الجزء الأخير من هذه المجموعة ينحو الأسلوب منحى ذاتياً أكثر وتأتي العبارات مغلفة بالعدمية مع نبرة ساخرة لجملة من المفاهيم “الخلود صفة النهايات العظيمة، أبحث عن بداية تؤجل خلودي” كأنَّ بريم غنايم تتعاطف مع قبور لا تحمل علامة.

وأنت تواصل قراءة محتويات هذه المجموعة ترافقك صدى مقولة جون دون التي تردُ في مفتتحها “أنا عالم صغير خلق بمكر” فالثيمة الأساسية لنصوص ريم غنايم هي مكر اللغة لتشكيل عالمها.

ما يجب الإشارة إليه أن وجود المرجعية لا يتناقض مع مفهوم الكتابة خارج الإطار يختلفُ المرجعية عن الأب الشعري الذي ترفضه ريم غنايم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى