الثورة اللبنانية تدقّ جدران ماغريت وتُعلن تحطيمها* ميموزا العراوي
النشرة الدولية –
اشتهر الفنان البلجيكي رونيه ماغريت بالأعمال الفنية المُحرّكة للخيال والمفتوحة على المعاني التي يُسقطها عليها الناظر إليها. معان هي أيضا عرضة للتحوّل، رهنا بالظروف الزمنية والمكانية المتصلة بلحظة المُشاهدة كعملية أو منصة تحريضية للإمعان في المعاني المُمكنة وعدم الاكتفاء بالتمتع بجمالية المشاهد المرسومة في لوحاته.
وأمام توالي وإلحاح النقاد ومتذوّقي الفن بالكشف عمّا أراد التعبير عنه، أجاب الفنان في بضع كلمات أنهت النقاش وتركت المُشاهد وحيدا أمام لوحاته. قال “إن أعمالي هي عبارة عن صور مرئية تخفي لا شيء، إنها تثير الغموض، وبالطبع حينما يرى المرء عملا من أعمالي يسأل نفسه هذا السؤال البسيط: ماذا يعني هذا؟ إنها لا تعني شيئا على الإطلاق، لأن الغموض هو اللاشيء”.
ومن هذا “اللاشيء” المُشاغب ولّد الفنان/ المُشاهد، وبالتالي ولّد منه التأويل، هذا الطفل النزق الذي يريد ما يريده بمعزل عن والديه وعن منطقهما.
من الأعمال التي قدّمها الفنان البلجيكي لوحتان عنونهما بـ“العاشقان 1” و“العاشقان 2”. وتعتبر لوحة “العاشقان 1” من أقوى الأمثلة على أهمية عملية التأويل أمام الأعمال الفنية. رجل وامرأة يلتف حول رأسيهما ووجهيهما المتقاربين نسيج حاجب وتجمعهما قبلة فاصلة بقدر ما هي جامعة.
كنت في مقال سابق ركزت اهتمامي على هذين الشخصين لأخرج بتفسير شخصي جدا. ولكنه مدعوم بمسلمات عن فن ماغريت بشكل عام. واليوم ومنذ أكثر من شهرين عادت هذه اللوحة إلى الواجهة خلال الفصول الأولى للثورة اللبنانية.
فقد تناقلت المواقع الإلكترونية صورا فوتوغرافية عن عشاق يتبادلون القبل في الساحات وخلفهم لهيب ودخان الإطارات المحترقة، أو أفواج الثوار المحتشدين بأعلامهم وبحيويتهم، والأهم من ذلك بتفاؤلهم.
ويُمكنني القول إن هذه المشاهد التي تعبّر عن الحب المُعلن والمطلق المرهون بآنيته وهشاشة مستقبله، رهنا بدرجة الرغبة في التغيير، وإن بلغت حدا أقصى، هي ما أفضت إلى انجاز عمل فني، وهو صورة فوتوغرافية مُعدّلة نسبيا للفنان الشاب عمر صفير قدّمها أيضا في معرض شامل في وسط بيروت عن الثورة، ضم صورا فوتوغرافية ولوحات وأعمال غرافيتي.
أعطى المصوّر الفنان لهذا العمل عنوان لوحة رونيه ماغريت، أي “العاشقان”. وجاء هذا العمل كنوع من إعادة قراءة لعمل الفنان الأصلي بوحي من الثورة. ظهرت في الصورة الفوتوغرافية القبلة ذاتها الحاضنة لشخصين اثنين وحيدين في غربتهما. ولكنْ مجتمعان في قبلة واحدة من خلف حجابين هما، ليس كما في لوحة ماغريت قماشتين بلون الأبيض، بل بعلمين لبنانيين. ظهر الشخصان في الصورة يخفيان وجهيهما ورأسيهما ويقيمان بقبلتهما الوصال مع العالم المحيط بشكل أقوى من لوحة رونيه ماغريت.
فإن كان الأفق في لوحة ماغريت مسدودا بسماء “جدارية” كئيبة فخلفية الصورة عند عمر صفير لا تشبهها، إلاّ في أنها جسّدت جدارا. ولكن من نوع مُستمد من ثورة نورانية، على الأقل في نظر المصوّر. وإن كانت عين مُشاهد لوحة الفنان ماغريت مشدودة إلى وسط اللوحة حيث العاشقان، فالصورة الفوتوغرافية التي التقطها الشاب تُرحّل النظر إلى خلفية الصورة، حيث نصب المصوّر جدارا قماشيا أبيض ومرتجا وقابلا للسقوط في أي لحظة.
في هذه المساحة الوضاحة أسكن المصوّر “قبلته”، وأفشى سرّ معناها في “لماعية” ذلك الشادر الأبيض خلفهما. لماعية بارقة توحي بأنها ستسقط حتما كلمعان البرق وسرعة الرعد في يوم من الأيام الآتية.
تقنيا، ما أعطى هذه اللماعية للشادر الأبيض، هو ضوء الشمس الضارب على سطحه جاعلا منه ومن المشهد السريالي مشهدا شديد الواقعية.
أما في لوحة رونيه ماغريت، فالجدار الأحمر الداكن الموجود خلف العاشقين في جانب واحد من اللوحة خلق نوعا من الخلل المُقلق في توازن تركيبة اللوحة. وجاء مُحكم الإغلاق وترشح منه سوداوية هادئة وقاتمة، كما في معظم السموات في لوحات ماغريت.
وفي حين تبدو لوحة ماغريت تشاؤمية، بدت صورة عمر صفير تضج بحيوية فرح غامض يريد أن يتحقّق. هي صورة عن وصال لم يحجبه وشاحان شبيهان بالكفن، بل علمان لبنانيان تلاقيا في قبلة واحدة علنية. قبلة “وطنية” جامعة لطالما كانت قبلة ممنوعة.
الجو في لوحة ماغريت كئيب، بينما هو احتفالي في الصورة الفوتوغرافية. صورة لا إحباط ولا طمس لرغبات دفينة فيها، كما في لوحة رونيه ماغريت. في صورة عمر صفير، المنتشرة على صفحات الإنترنت لمن يود رؤيتها، بيان علني وجد بيئته المناسبة تحت الشمس وعلى وتر ثورة فتية لا زالت في أولى مراحلها.
ولعل ما قاله عمر صفير عن صورته هذه كفيل بأن يوضّح الفرق ما بين صورته ولوحة رونيه ماغريت، إذ قال “هذه الصورة هي الجانب السريالي للثورة.. أنت لا تحتكر شيئا فيها. هذه الصورة لست أنا منجزها. إنها من، وإلى الثورة”.