الحياة والموت والخوف في زمن الطاعون* هشام ملحم
النشرة الدولية –
لا أحد يعرف، في هذا الوقت المبكر بعد انتشار وباء كورونا في العالم، ما هي مضاعفاته على العالم، بدءا من عدد ضحاياه وآثاره بعيدة المدى على الصحة العامة في العالم، إلى أثره على الاقتصاد العالمي، والتغييرات السياسية التي ستنجم عنه، وكيف سيغير من سلوكنا وعاداتنا الاجتماعية.
ما هو مؤكد أننا لن نعود إلى “الحالة الطبيعية” التي سبقت هذا الوباء الجديد. الأوبئة الكبيرة في التاريخ من الطاعون الذي اجتاح أوروبا في القرن الرابع عشر وأدى إلى مقتل 25 مليون نسمة إلى ما سمي “بالإنفلونزا الإسبانية” بين 2918 و1920، والتي نجم عنها مقتل ما يزيد عن 50 مليون نسمة، مثلها مثل الحروب الشاملة (الحروب النابوليونية، والحربين العالميتين) تتحول إلى نقاط مفصلية في التاريخ، وتترك وراءها أنماطا جديدة في الإنتاج الاقتصادي، والتحولات الاجتماعية والثقافية وعلاقات الدول بمجتمعاتها.
الطاعون، مثل الشيطان في الثقافة الغربية له أسماء عديدة وأشكال مختلفة وأقنعة متغيرة، ولكن جوهره لا يتغير. وهو يقتل أو يشوه الملايين، أحيانا بسرعة وخلال ساعات قليلة، وأحيانا يعذبهم لأيام وأسابيع، أحيانا يفضل قتل الشباب نسبيا، كما فعل وباء 1918، وأحيانا يفضل حصد المتقدمين في السن، كما يبدو من خصائص وباء كورونا.
وعلى الرغم من الظروف التاريخية المختلفة لكل وباء، إلا أن هناك سمات مشتركة بينها، أو على الأقل في طريقة تعامل السلطات الحاكمة والمجتمعات معها. هذه الأوبئة كانت كوارث إنسانية كبيرة، والآلام التي تسببت بها غيرت الثقافة الغربية بشكل عميق.
خلال “الموت الأسود” في القرن الرابع عشر، كما خلال وباء 1918، ووباء كورونا اليوم، تعطلت الحياة الاجتماعية، وعزل الناس أنفسهم، حتى قبل أن تطلب السلطات منهم عدم الاختلاط. وخلال كل وباء كان كثيرون يلجؤون إلى التفسيرات الغيبية لأسباب الوباء أو النظر إليه كعقاب إلهي، أو كمؤامرة.
أحد أسباب الانتشار السريع “للإنفلونزا الإسبانية” والتأخر في معالجة الوباء هو قرار الدول التي انتشر فيها الوباء في أوروبا قبل وصوله مع الجنود الأميركيين العائدين إلى البلاد من الحرب العالمية الأولى، التغطية على الوباء وفرض رقابة على الصحف. ونظرا لأن إسبانيا كانت على الحياد في الحرب، لم تفرض مثل هذه الرقابة على وسائل إعلامها التي بقيت لبضعة أسابيع الوحيدة بين وسائل الإعلام الأوروبية التي غطت انتشار الوباء وكلفته البشرية. ولهذا السبب أطلق على الوباء اسم “الإنفلونزا الإسبانية” على الرغم من أن الوباء لم يخرج من إسبانيا.
تأخر الدول الأوروبية في التعامل الصريح والعلني مع الوباء الجديد أو التخفيف من خطره، مماثل إلى حد ما مع كيفية تعامل إدارة الرئيس دونالد ترامب مع وباء كورونا: التخفيف من خطره، والادعاء بأنه تحت السيطرة أو الادعاء بقرب التوصل إلى علاج له. في 1918 كما في 2020 طغت الاعتبارات السياسية في الولايات المتحدة على متطلبات الصحة العامة في مكافحة الوباءين.
وفقا لدراسات وتحقيقات صحفية، لو لم تلجأ السلطات الصينية إلى التغطية على وباء كورونا وانتشاره لمدة ثلاثة أسابيع محورية في ديسمبر الماضي لكان بالإمكان تخفيض عدد ضحايا الوباء بنسبة 95 بالمئة، إضافة إلى تقليص رقعة انتشاره. المعلومات الأولية التي جمعها العلماء والخبراء الصينيين حول طبيعة وباء كورونا بقيت سرية إلى أن تم الكشف عنها في التاسع من يناير الماضي.
لو تعاملت الصين بشفافية مع الوباء بعد اكتشافه وطلبت مساهمة العالم في التصدي له، لربما كان بالإمكان تفادي الإجراءات القاسية التي اتخذتها الصين لعزل 11 مليون نسمة في مقاطعة ووهان، ولاحقا تفادي مأساة إيطاليا، وغيرها من المآسي القادمة.
التضليل والتعتيم الذي فرضه النظام الأوتوقراطي الصيني، مارسه أيضا النظام الثيوقراطي الإيراني، بعد الانتشار السريع لوباء كورونا في محيط مدينة قم ذات الأهمية الدينية. لا أحد يعلم بدقة عدد ضحايا كورونا في إيران، وربما لن نعلم العدد الحقيقي، ولكن ما نعلمه بدقة هو أن الأقمار الاصطناعية التقطت صور حفر قبور جماعية لضحايا الوباء في محيط مدينة قم.
وإذا لم يكن التضليل الصيني والتعتيم الإيراني كافيين، فقد لجأ النظامان القمعيان إلى اتهام الولايات المتحدة بصنع أو تطوير الوباء ونشره في العالم. الناطق باسم وزارة الخارجية الصينية ادعى أن كورونا هو من صنع الولايات المتحدة، وأن وفدا عسكريا أميركيا زار ووهان في أكتوبر ونشر الوباء فيها. طبعا لم يبال المسؤول بتقديم أي دليل، لأنه ينشر نظرية مؤامرة لتغطية سلوك مشين إن لم نقل إجرامي.
في إيران، استخدم المرشد علي خامنئي عرض الولايات المتحدة مساعدة إيران في مواجهة الوباء، أولا لرفض العرض ـ على الرغم من إن إيران تعاني الكثير من مضاعفات العقوبات الأميركية ـ وثانيا ليدعي أن الولايات المتحدة طورت وباء كورونا خصيصا لمعاقبة الإيرانيين، وليواصل كذبه حين قال إن الولايات المتحدة تريد إرسال خبرائها إلى إيران للتعرف عن كثب على آثار سمومها التي بثتها في إيران. هذه ليست أكاذيب مضحكة أو مزعجة فقط، هذه أكاذيب صينية وإيرانية ساهمت وتساهم في قتل الأبرياء.
أهلا بكم إلى المجهول
قبل أيام شهدنا موكبا من الشاحنات العسكرية في مدينة ميلانو في إيطاليا يحمل عشرات التوابيت لضحايا وباء كورونا لحرقها في الأفران المختصة لأنه لم يعد هناك مساحات في المقابر المحلية لدفنهم. وباء 1918 زعزع النظام الصحي في الولايات المتحدة وفرض على المستشفيات والأطباء تحديات غير معهودة من بينها كيفية دفن جثث الضحايا لعدم توفر التوابيت أو المقابر وخاصة بعد أن منعت السلطات المآتم، وغيرها من التجمعات لاحتواء انتشار وباء “الإنفلونزا الإسبانية”. تفادي التجمعات والتعامل مع الآخرين عن بعد وعدم الاحتكاك الشخصي بهم، هي من أهم التوصيات التي يقدمها المسؤولون عن الصحة العامة للأميركيين اليوم لمنع انتشار وباء كورونا.
بين وباء “الإنفلونزا الإسبانية” ووباء كورونا قرن من الزمن، حدثت فيه تطورات هائلة في مجال الطب والصحة العامة وخاصة ظاهرة العولمة والمواصلات السريعة ووسائل الاتصال الاجتماعي. هذه العوامل تعجل في انتشار الأوبئة بطريقة لم تكن معهودة في السابق.
في 1918 نقلت السفن والبواخر التي حملت آلاف الجنود الأميركيين المصابين بالوباء من أوروبا إلى بلادهم، ولكن وباء كورونا انتقل عبر الطائرات من الصين إلى العالم. الأوبئة، حتى قبل “الموت الأسود” لم تكن تعترف بأي حدود سياسية، وهي مثل التغيير المناخي لا تعترف بأي سيادة وطنية. ولكن القرن المنصرم لم يغير من كيفية التصدي للوباءين: العزلة الاجتماعية، وتغيير أنماط التواصل الإنساني والاجتماعي.
لا أحد يعلم بدقة عدد ضحايا كورونا في إيران، وربما لن نعلم العدد الحقيقي
في 1918 صرخ العنوان الرئيسي لصحيفة شيكاغو تريبيون “الإنفلونزا يغلق شيكاغو” في إشارة إلى إغلاق البارات والصالونات والمطاعم وصالات السينما وهو عنوان ينطبق على الأوضاع الراهنة في أعقاب وباء كورونا في نيويورك ولوس أنجلس وسياتل، وسوف ينطبق قريبا على شيكاغو.
القطاعات الاقتصادية التي تكبدت خسائر مالية كبيرة أو تعطلت في 1918 شملت قطاعات الخدمات والترفيه، بينما استفادت القطاعات التي تصنع المعدات الطبية والأدوية وكل ما له علاقة بالصحة العامة. بعد قرن من الزمن، وباء كورونا قصم ظهر القطاعات ذاتها.
وباء كورونا لم يغلق كبريات المدن الأميركية فحسب، بل أغلق بعض كبريات الولايات الأميركية: كاليفورنيا، نيويورك، إلينوي وأوهايو، والبلاد تقترب ربما من إعلان اغلاق نفسها، وكأنها قلعة في القرون الوسطى، ترفع أبوابها الثقيلة التي تغطي الخندق المائي الذي يحيط بها استعدادا لمقاومة الغزاة. الرئيس ترامب يصف وباء كورونا بأنه “عدو غير مرئي”.
في 1918 وصفت الإنفلونزا الإسبانية”، “بالعدو الصامت”. بين 1918 و1920 قضى الوباء على 675,000 أميركي، أي أكثر من عدد القتلى الأميركيين في الحربين العالميتين وحربي كوريا وفيتنام. طبعا، لا أحد يتحدث عن خسائر بشرية مماثلة بسبب وباء كورونا، ولكن الخوف من المجهول مماثل.
هذه ليست أكاذيب مضحكة أو مزعجة فقط، هذه أكاذيب صينية وإيرانية ساهمت وتساهم في قتل الأبرياء
المضاعفات الاقتصادية “للموت الأسود”، أي طاعون القرن الرابع عشر كانت تاريخية بالفعل، وخاصة التغيير الجذري في التركيبة الديموغرافية للقارة بعد وفاة 25 مليون نسمة وهو تطور غير من طبيعة حياة الفلاحين وأدى إلى نمو اقتصادي ملحوظ لأن الوباء قضى على البشر ولكن ليس على الممتلكات، وتوفر للسكان الذين بقوا على قيد الحياة ممتلكات وموارد لم تكن متوفرة لمعظمهم قبل الطاعون.
تحسن الإنتاجية ونوعية حياة الفلاحين، أدى إلى تغيير نوعي لصالحهم في علاقتهم مع “النبلاء” ، وساهم في تنشيط التجارة والتنقل بين المدن الكبيرة في القارة. التغييرات الاقتصادية التي أعقبت وباء 1918، كانت محدودة نسبيا. ولكن كلفة مواجهة وباء كورونا، حتى خلال أشهر قليلة، فاقت كلفة مواجهة جميع الأوبئة الموثقة.
القيود التي فرضتها الولايات المتحدة (والدول الأوروبية) على الأنشطة الاقتصادية، ستؤدي إلى خسائر هائلة في المستقبل المنظور. وسوف تؤدي محاولات الحكومات الديمقراطية احتواء ومكافحة وباء كورونا إلى اعتماد وسائل سوف تعترض عليها المنظمات المعنية بالحقوق المدنية.
وعلى سبيل المثال هناك دول مثل إسرائيل وسنغافورة تستخدم المعلومات المخزونة في الهواتف النقالة لمعرفة مكان وجود صاحب الهاتف وطبيعة تنقلاته واتصالاته. وهناك توقعات بأن تحاول شركات الطيران استخدام مثل هذه المعلومات الرقمية في الهواتف النقالة للتأكد من تاريخ وعلاقات المسافر. هذه المعلومات والقيود التي ستتحدى حقوقنا المدنية تجد من يؤيدها في المجتمع بحجة أننا قبلنا، ولو على مضض القيود التي فرضت على الحياة العامة في أعقاب الهجمات الإرهابية الكبيرة مثل هجمات سبتمبر 2001.
لا نعلم بدقة ما هي الشرائح الاجتماعية التي ستتضرر جراء وباء كورونا، والتغييرات الاجتماعية والسياسية التي ستبقى جاثمة فوق حياتنا العامة لسنوات طويلة. أهلا بكم إلى المجهول.