فوضى استجابة الحكومة لفيروس كورونا أقرب إلى إخفاقات عام 1914* باتريك كوبيرن
النشرة الدولية –
يدعو رؤساء الحكومات في كل مكان شعوبهم لشنّ حربٍ على تفشي فيروس كورونا، ويعيدون إلى الأذهان انتصارات سابقة في محاولة منهم لرفع الروح المعنويّة. وفي بريطانيا، يَذكُر السياسيون الحرب العالمية الثانية باعتبارها مثلاً مناسباً عن المقاومة المُصمّمة والناجحة في مواجهة عدوّ مخيف.
لكن رد السلطات البريطانية المتعثّر إلى الحين على جائحة كوفيد-19 أقرب بكثير إلى إخفاقات العام 1914 من أي حدثٍ وقع في 1940. وأوجه الشبه مذهلة بين أزمة اليوم وتلك التي انفجرت في العالم منذ ما يزيد بعض الشيء عن 100 عام. فقد شهدت تلك المرحلة ضعفاً في القيادة يشبه هذه الأيام تماماً- وهي لم تعد العدة كما يجب وأعيق تقدّمها بسبب تبنّي استراتيجية خاطئة في البداية- إذ أرسلت القوات المتمركزة في الجبهة الأمامية إلى الميدان لتتكبّد خسائر فادحة. والفرق هو أن الضحايا كانوا عندئذ في صفوف الجيش البريطاني وهم اليوم في صفوف هيئة الخدمات الصحية الوطنية.
“أسودٌ بقيادة حمير” هي العبارة التي استُخدمت لإدانة الخسائر في الأرواح بسبب عدم كفاءة جنرالات الحرب العالمية الأولى وأسيادهم من السياسيين. وفي الوسع استخدام الكلمات نفسها اليوم: كان النقص حينها في الأسلحة الرشّاشة والقذائف المدفعية، بينما هو اليوم في أجهزة التنفّس والكمامات الطبية وعدّة الفحص. والقاسم المشترك هو أن النقص في كلتا الحالتين سيؤدي إلى مقتل نسبة من أولئك الذين لا يحصلون على الأجهزة الضرورية أو سيخلّف لديهم إعاقة.
ويمكن أن تستمر المقارنة بعد: فقد لقي أفضل الجنود تدريباً في صفوف قوات الحملة البريطانية حتفهم بشكل شبه تام خلال الأشهر الأولى من الاقتتال واستُبدلوا بمتطوّعين تملؤهم الحماسة وسوء التدريب. ولكن كيف سيبلي كل هؤلاء الذين يتطوّعون للخدمة في مستشفيات كوفيد-19 عندما تبدأ بالاكتظاظ؟
هل ما أسوقه من قبيل دراما مبالغ بها؟ هل تختلف الجائحة عن الحروب؟ بدأت حكومات العالم بالفعل بالكلام عن احتمال وقوع ملايين الوفيات إن لم يُكبح جماح الفيروس. وهو يعطّل سير الحياة ويطيح اقتصادات بشكل لم نشهده منذ العام 1945.
وأحد الأعذار للأداء المتعثّر الذي أظهرته معظم الحكومات هو أنّ هذه الأزمة غير مسبوقة. مع أنّ الصين وتايوان وكوريا الجنوبية وسنغافورة أحسنت التوسل بخبرتها مع متلازمة الالتهاب التنفسي الحاد (السارس). ومجدداً، تبدو أفضل المقارنات هي تلك مع العام 1914 الذي كان أول نزاع عسكري دولي كبير منذ الحروب النابلونية التي سبقته بمئة عام. ومع قدوم الحرب العالمية الثانية، كان الناس قد راكموا ما يكفي من المعرفة البشعة ليدركوا معنى هكذا نزاع مزلزل.
لكن هذا لا يبرر سبب تقديم القيادة السياسية والعلمية في بريطانيا أداءً تبين أنه أسوأ من الدول المتطورة كافة تقريباً. فمنذ البداية، أساءت السلطات تقدير خطورة الأزمة: منذ خمسة أسابيع ونصف الأسبوع فقط، يوم 21 فبراير (شباط) توصّل اجتماع لمستشاري الحكومة العلميين إلى أنّ كوفيد-19 لا يشكّل سوى مصدر “خطر معتدل” على بريطانيا. وجاء ذلك بعد مدة طويلة من انتشار الوباء في الصين التي سجّلت 75.465 إصابة و2236 وفاة وفيما كان ينتشر في كوريا الجنوبية وتايوان وإيران وإيطاليا وفرنسا.
حضر الاجتماع مدّعو العلم الذين تحوّلوا مذّاك إلى مشاهير على شاشة التلفزيون مثل خبير نمذجة الجائحات نيل فيرغسون. لكن الخلاصة التي توصّل إليها الاجتماع لم تُثر اعتراضات كثيرة. وسُمح لربع مليون شخص بحضور مهرجان تشلتنهام بين 10 و13 مارس (آذار)، أي قبل عشرة أيام فقط من إعلان بوريس جونسون أن على الجميع ملازمة منازلهم وتفادي التجمعات الكبيرة للحؤول دون انتشار الفيروس الفتّاك. وكان هذا سوء تقدير يشبه ما حدث في الحرب العالمية الأولى وقد أدّى بالفعل إلى خسائر جسيمة في الأرواح.
ويبدو أنّ الحكومة تفكّر على شاكلة الشعارات ولا تستند إلى سياسات مترابطة. فقد استُبدل شعار “فلننته من تنفيذ بريكست” بشعار “لازموا المنازل واحموا هيئة الخدمات الصحية وأنقذوا حياة الآخرين”. وتبدو كل الخطوات من فعل الهواة: افتتحت منشآت ضخمة لإجراء الفحص من داخل السيارة في عالم مغامرات تشيسنغتون وفي آيكيا في ويمبلي لكن لم تستقبل هذه المنشآت أي شخص من هيئة الخدمات الصحية الوطنية قبل أن يستلم بريداً إلكترونياً يحدد له موعداً وهو أمر شبه متعذر إلى حد ما.
ويقابل تقليد الهواة البريطاني المبالغة في احترام الخبراء المزعومين. ففي أوقات المحن، يتطلع الجميع إلى المُخلّصين الذين يمتلكون قوى سحرية: منذ مئة عام، أُسند هذا الدور إلى كيتشنر، والأمال اليوم معقودة على معرفة كبير المسؤولين العلميين السير باتريك فالانس وكبير الأطباء كريس ويتي وهما محترفان يتحدثان بفصاحة وثقة، سبيل عملي للخروج من الأزمة.
لكن ويتي وفالانس كانا بنفسهما دعاة الاهتمام الكارثي بمقاربة “مناعة القطيع”- فليُصب معظم الناس باستثناء أكثر المعرضين للخطر- التي لم توضع جانباً سوى يوم 16 مارس. منذ ذلك التاريخ، يحاول الوزراء النأي بأنفسهم بعيداً عن استراتيجية يدينها الجميع تقريباً، وحتّى الرئيس ترمب الذي وصفها برياء وقح بـ”الكارثية”.
لكن النقّاد يشيرون بفظاظة إلى أنّ هذا التباعد السياسي لن يفلح نظراً لأنّ الدكتور ديفيد هالبيرن، وهو أحد كبار المسؤولين في رئاسة الوزراء، أجرى مقابلة قبل 5 أيام من تغيير الحكومة مسارها، أكّد فيها أنّ السياسة الرسمية تقضي بحماية الأكثر ضعفاً بحيث “يكون بقية السكان قد اكتسبوا مناعة القطيع” عندما يحين وقت خروجهم من عزلتهم.
تُراكم الحكومة البريطانية سجلاً ضخماً من إساءة الحكم والعجز عن إقران القول بالفعل. فلماذا تبنّت سياسة مختلفة للغاية عن بقية أوروبا وآسيا مُخالِفةً نصيحة منظمة الصحة العالمية؟ يُرجّح أنّ أحد مسوغات هذا السلوك هو أنّ الحكومة المؤلفة من مناصري بريكست الذين قضوا السنوات الثلاث الماضية في التغنّي بحسنات الانفصال والتفرد البريطاني اعتبرت أن لا ضير من شق سبيلها الخاص. وقد يكون أحد التبريرات أيضاً أنّ البريطانيين لطالما استصعبوا فكرة استقاء الدرس من تجارب الدول الأخرى وعليهم الانتظار بالتالي كي يختبروا التجربة بأنفسهم.
ويمكن تفادي بعض المخاطر الأخرى التي تلوح في الأفق إن أخذنا في الاعتبار تجارب الأزمات العالمية الماضية. ومن المهم عدم المبالغة في جبه الفوضى عبر تنصيب شخصية خارجية لترؤس التموين الطبي مثلاً كما فعل تشرشل عندما عيّن صديقه وحليفه اللورد بيفربروك، صاحب صحيفة ذا دايلي إكسبرس، في منصب وزير صناعة الطائرات في العام 1940، مدفوعاً باعتقاد خاطئ بأنه قد “يحرّك” قطاع صناعة الطائرات.
لكن وفقاً لرواية الجنرال السير آلن بروك، رئيس الأركان البريطاني ذي الكفاءة الهائلة، فقد عطّل إنتاج مختلف أنواع الطائرات المخطط له بعناية. وما أشعل غضب بروك بشكل خاص هو استخدام بيفربروك الدروع التي تحتاجها الدبابات لصناعة سيارته المصفّحة الخاصة وعديمة الفائدة، التي أُطلق عليها اسم بيفريت، كي يستخدمها الحرس الوطني. وقضت مغامرته الأخرى بتنظيم حملة تُجمع خلالها أواني المطبخ المعدنية -بالإضافة إلى حواجز الزينة الحديدية- باعتبارها ركاماً وكان من المفترض إذابتها لتحويلها إلى طائرات “سوف نحوّل أوانيكم وقدوركم إلى طيارات سبيتفاير وهوريكاين وبلينهايم وويلينغتون”. وأفادت معظم الروايات عن امتلاء مَكبّات النفايات التابعة للبلديات بركامٍ عديم الفائدة وغير مُستخدم عندما بلغت الحرب نهايتها.
فضحت الحرب العالمية الأولى معظم حكومات أوروبا وما بعدها فعرّتهم وأظهرتهم على أنهم مجموعة من الأغبياء العاجزين عن التعامل مع أزمة حقيقية. ومن المُرجَّح أن تثير الجائحة زلزالاً سياسياً مشابهاً ستكون الحكومات التي تستخدم تشبيه الحروب بلا تفكير لمصلحتها، محظوظة إن استطاعت أن تتخطّاه.