سعي دولي للاستفادة من العملات الرقمية بزمن كورونا… يصطدم برفض روسي – ياباني – أميركي

النشرة الدولية –

لم يكن كورونا الدافع لإطلاق النقاش حول “الدولار الرقمي” في الولايات المتحدة الأميركية، فواشنطن تراقب عن كثب مشاريع العملات الرقمية المشفرة منذ عقد من الزمن، وتدير سقفها بما لا يضرّ بشكل الاقتصاد العالمي، وتجربة “فيسبوك” قبل أشهر قليلة في محاولتها إطلاق عملتها “ليبرا” واصطدامها بالكونغرس الأميركي خير دليل على ذلك، وكالعديد من المجالات في الحياة البشرية، يقدّم كورونا خدمة خفية بتعجيله اللجوء إلى آليات تعزز استخدام التكنولوجيا، والتداول الرقمي للعملة إحدى هذه الآليات.

ويناقش أعضاء في الكونغرس الأميركي حالياً مشروع قانون يتيح للمصرف الفيدرالي استخدام “محافظ رقمية” لإرسال دفعات شهرية للأسر الفقيرة والعمال، ومع أن الآلية المقترحة لا تزال بعيدة عما هو مألوف في عالم العملات الرقمية المشفرّة، فإن الخبراء الأميركيين يستفيدون في الواقع من نظام “بلوك تشين” لحفظ السجلات والبيانات التي تنتجها خطة دعم مماثلة واستخدام القيمة الرقمية المودعة في هذه المحافظ الإلكترونية (الحسابات) واستبدالها عند الحاجة لدى أي مؤسسة مالية يشرّع عملها البنك الفيدرالي نفسه.

وبكلمات أخرى، لقد قررت واشنطن استخدام مفهوم العملات الرقمية لتسهيل عملية توزيع الإعانات الشهرية من دون مشكلات وأخطاء، بسبب طبيعة تقنية “بلوك تشين” التي يستحيل اختراقها أو تزويرها نظرياً، لكن واشنطن ليست وحدها في السعي نحو الالتفاف على الأزمة المالية المرتقبة من كورونا، ففي سويسرا، قام بنك محلي للمرة الأولى، الأسبوع الماضي، بربط عملة رقمية مشفرّة بالعملة الرسمية، بعدما حصل على موافقة السلطات، ما يفتح المجال أمام سوق واسعة في أوروبا بأسرها، لا سيما أن أسباب الاعتراض الأوروبي السابق على العملات الرقمية بات غير ذي قيمة في ظلّ أزمة عالمية تحاصر اقتصاديات كل الدول وتبادلاتها التجارية.

الهولنديون ذهبوا أبعد من ذلك، إذ قدّم اتحاد “بلوك تشين” في أمستردام نظاماً كاملاً للسلطات المحلية تم تصميمه لتتبع المواطنين الأصحاء ومساعدتهم على تجنب الإصابة بالأمراض، وسرعان ما تم تحويل المشروع إلى منصة رقمية يمكن للمستخدمين شراء عملتها والتداول بها، لكن تذبذب سعر العملات الرقمية المشفرّة في الأسابيع الأخيرة التي رافقت صعود كورونا يزيد من الشكوك حول جدوى هذه العملات في أن تقدم حلولاً للعالم.

في الواقع، يخلط الكثيرون بين العملة الرقمية المشفرة وتقنية “بلوك تشين” التي تقوم عليها هذه العملات والعملات الرقمية التقليدية التي تسيطر عليها حكومات وجهات محددة، وبغض النظر عن “كوفيد-19″، فإن تقنية “بلوك تشين”، التي تقوم فكرتها على توفير ما يصطلح المحاسبون على تسميته “دفتر الأستاذ” (دفتر سجلات مالية)، باتت مرجعاً في إطلاق الكثير من المشاريع في شتى المجالات، من التأمين والقطاع الصحي والعمليات الانتخابية إلى أنظمة الجودة في الصناعات كافة، فعمليات نقل السلع والتخزين وصولاً إلى كل عملية تبادل تبدأ من مكان وتنتهي عند آخر.

ومع الخسائر التاريخية لأسواق الأسهم والقطاعات الاقتصادية العالمية، فإن “التعاملات الذكية” القائمة على العملات الرقمية قد تكون طوق نجاة الاقتصاد العالمي لاعتبارات عدة في مقدّمها أن العالم يحتاج إلى وقت قبل عودة الثقة والسيولة المالية إلى الأسواق، كما سيفقد الكثير من العملات المحلية قيمتها الحالية بسبب اضطرار الحكومات لطبع المزيد من الأوراق النقدية، ما يساهم في فقدان قيمة العملة التقليدية، ومن الاعتبارات أيضاً أن الضرر الذي لحق بالاقتصاد العالمي يتطلب حلولاً تشاركية لا فردية.

في المقابل، تحظى العملات الرقمية المشفرّة تحديداً بامتيازات تجيب على المشكلات أعلاه، فهذه العملات معروفة ومحددة الحجم مسبقاً بحسب طبيعتها، ما يعني أن الناس يستثمرون فيها مع معرفة مسبقة بحجم إصدارها، وهي تزداد قيمة مع زيادة عدد المتداولين بها، كذلك هي غير مرتبطة بالحكومات التي لا تقدر على التلاعب بحجمها في السوق، كونها ببساطة لا تدير هذه العملات، كما أنها تتيح للبشر الاتفاق على عملة عالمية جديدة بقيمة يحددها استخدامها من دون تحميل الحكومات المزيد من الأعباء.

ولكن هل يعني اللجوء إلى استخدام العملات الرقمية المشفرة تغيير شكل النظام الاقتصادي العالمي؟

في الواقع، إن التمحيص في هذه الفرضية يفيد بأننا أمام وجه آخر للعولمة بأدوات جديدة، فالنجاح والثراء في عالم العملات الرقمية المشفرّة مرهونان بالكفاءات العلمية العاملة في المجال التكنولوجي أولاً والقطاعات التي تستند إلى هذه التكنولوجيا، من دون أي شروط جغرافية او عرقية أو لغوية، وفي هذا المعنى، فإن الناس في جميع الدول سيكونون مجدداً أمام عالم مفتوح أتاحته لهم العملات الرقمية، والعائق الوحيد أمام السيناريو أعلاه هو في الحكومات نفسها، فهل يقبل السياسيون بالتخلي عن إحدى أدوات الحكم؟ وهل تقبل الولايات المتحدة بتقاسم قيمة الدولار مع عملة عالمية جديدة لا تسيطر على قيمتها بالكامل؟

تشير الاتجاهات في أكثر من دولة إلى سعي للاستفادة من العملات الرقمية وتقنية “بلوك تشين” مع السيطرة على جانب “التشفير”، أي أن تكون العملات الرقمية خاضعة لسيطرة الدولة لا المستخدمين والمتداولين، وفي الأشهر القليلة الماضية السابقة لانتشار كورونا، لجأت دول عدة إلى هذا الخيار بالفعل، فأصدرت فنزويلا عملة رقمية للالتفاف على العقوبات الأميركية، ونشأت نقاشات حادة في إيران بين مؤيد ومعارض لخطوة مماثلة، في حين أبدت كوريا الجنوبية مرونة ملحوظة إزاء فكرة إطلاق عملية رقمية محلية.

ومع ذلك، اصطدم مستقبل العملات الرقمية برفض روسي – ياباني – أميركي، لاعتبارات سياسية أمنية، أما اليوم، فإن عودة النقاش من واشنطن تحديداً، قطب الاقتصاد العالمي، لبحث احتمالات إطلاق “دولار رقمي” قد يتطور قريباً ليحاكي حاجات الاقتصاد العالمي الجديد، من شأنه أن يفتح الباب على مصراعيه أمام الدول كافة لدراسة خطوات مماثلة.

وقد لا يكون شكل العملات الرقمية في المستقبل القريب هو نفسه المألوف بالنسبة لمستخدمي “بيتكوين” وأخواتها من العملات الرقمية المشفرّة، ولكن مفهوم هذه العملات سيكون بالتأكيد في صدارة خيارات حلول الدول الكبرى لمكافحة آثار كورونا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى