لوحات بالكلمات ومشاعر مرسومة.. وقفة عند تقاطع الفنون* هدى الهرمي

النشرة الدولية –

لقد اتسمت الفنون بكونها انعكاساً للرؤى الإبداعية وصورها ومشاهدها النابعة من تجربة ذاتية، والمتضمنة موضوعات إنسانية مُحمّلة بالرمزيّة والخيال في استنطاق الواقع وتجاوزه. وقد برع العديد في المزج بين مختلف الفنون من شعر ورسم، ورواية، ومسرح، وسينما. كلٌّ يعبر عن هويّته بعمقها وخصوصيّتها، وكذلك بالسَّعي الدؤوب إلى الابتكار والخلق بمختلف التيّارات والأنماط وعوالمها المتجذِّرة من الوجود.

ومن أبرز الفنون ذات المعجم المشترك فنّ الرواية والفن التشكيلي، فاللغة الفنيّة تحضر بقوّة بين الخطاب التشكيلي والخطاب اللفظي، ليتجلّى ذلك التداخل الباذخ بين جنس أدبي وجنس فنيّ وتتبلور صيغة التأثير والتأثّر.

ويبدو جلياً من خلال عديد النماذج أنَّ العلاقة بينهما أصيلة وضاربة في التاريخ، لتتخطَّى النقل اللفظي أو التعامل اللغوي المحض وتنصهر في إنتاج الأثر الطافح بالدلالة والإيحاء.

لكن ما هي التقاطعات البارزة في الخطاب اللفظي والمنجز البصري، وكيف تكرّس تنويعاتها الفنيّة رافداً لمعايير الإبداع؟

إن الرسم يلعب دوراً محوريّاً في الأدب بمختلف أجناسه، وأول فنٍّ أسبغ سماته الفنية على النصوص الشعرية والسردية، وأيضاً المسرحيّة، إذ يقدم المألوف في شكل جديد، واستخدم الألوان كنوع من الحيوية للفت نظر المتلقي، سواء أكان في الشكل أو في المضمون. بالتالي ليس من السهل رسم خطٍّ فاصل بينها رغم الفروق في الأدوات، فإعادة النظر فيما حولنا وإعادة تقييمه تجدِّد القوى وتحفِّز الهمم، وهذا في حدِّ ذاته ما ينشده أي مبدع، وبذلك يتحقق هدف الفنِّ سواء أكان أدبياً أو تشكيلياً، ومن ثمّ فقد ضمن قوّة التأثير.

إن الفن التشكيلي خلاصة ومضات فكرية وخلجات ذاتية تأبى السكون وتنحاز لجهة الابتكار البصري عبر استخدام عناصر إبداعية مثل الصور والألوان التي تفرزها النفس التوّاقة إلى بلورة طاقاتها التعبريّة الخاصة.

لوحة بالكلمات

لقد سجَّل التاريخ نماذج متعددة من الكُتاب والمبدعين الذين تأبّطوا الفن التشكيلي والفن الأدبي فانصاعت لهم تلك التجليات المبهرة لصياغة الإبداع.

وقد جسَّد الرسام والنحّات الإسباني بابلو بيكاسو هذا المزج بين الشعر وفنون أخرى، وهو القائل: “بعد كلِّ شيء الفنون كلها واحدة، يمكن أن نكتب لوحة بالكلمات كما يمكن أن نرسم المشاعر في قصيدة”.

ومن خلال رواية “شيفرة دافنشي” الصادرة سنة 2003 للكاتب الأمريكي دان براون تظهر ثنائية الفن التشكيلي والروائي لتندرج تحت مفهوم التناصّ الإبداعي وتوظيف المنجز البصري للخطاب السردي، حيث تدور أغلب الأحداث حول اختراعات وأعمال ليوناردو دافنشي الفنية، ثم تحوّلت إلى فيلم سينمائي سنة 2006 من إخراج رون هوارد.

كما ارتبطت لوحة الجيوكاندا (الموناليزا) لدافنشي بعديد من القصائد، لتؤجّج أسئلة الفنِّ ومدى تداخلها التأليفي الذكيّ كأجناس متحوّلة في أزمانها، لتقدم فاعليّة الفنون ومدى التأثير المزدوج بين الفن والأدب.

واعتمد الشاعر والروائي السوري الكردي سليم بركات في روايته “سبايا سنجار” الصادرة سنة 2006 على لوحات فنية عالمية، لتؤسس كل لوحة فصلاً من فصول الرواية العشرة، خاصة أن الشخصية الرئيسية فنان تشكيلي.

لقد ظهرت أيضاً العديد من اللوحات العالمية المستوحاة من فنّ الرواية، مثل لوحة الحريّة للرسام الفرنسي ديلاكروا، والتي تعتبر واحدة من الأيقونات الفنية، ولوحة جناز مدام بوفاري المستلهمة من رواية لغوستاف فلوبير.

وأصل العمل الفنيّ حسب فلسفة هيدغر أنه يظهر أشياء لم تكن تظهر، وهذه الأشياء قد تكون معاناة، وقد تكون أشياء جميلة، وأنه في حد ذاته انكشاف للحقيقة التي تقدم نفسها على أساس أنها انكشاف وتستّر وظهور واختفاء، وذلك برجوعه إلى لوحة الفنان الشهير فان غوخ في تحليل الأثر الفني وتحويل التبصر إلى درب من الإدراك والتصور، ليندلع نمط مستجد للإبداع ككل.

ولقد اهتمّ العديد من النقاد بالبحث في الفن التشكيلي المكرّس في فنّ الرواية وجدليّة المنجز البصري والسردي، علاوة على إبراز أفق المقاربة والتناظر. وقد صدر في هذا السياق كتاب جديد بعنوان “الرسام والروائي” 2020، للناقد والأستاذ الجامعي المغربي شرف الدين ماجدولين، تناول فيه قضايا الصورة والتصّور في علاقتهما بالمتخيّل الروائي والتشكيلي. لتصبح الرواية واللوحة قادرتين على خلق سجال معرفيّ متبادل وعميق. وقد عرج على لوحة “لاغيرنكا” للرسام العالمي بيكاسو من ضمن النماذج الفنية التي ما انفكّت تسيل الحبر وتنصاع إلى إعادة تشكيل إبداعي بطرائق مختلفة.

وهكذا فالفن قابل لمفارقة مراتعه الأولى وتبنّي صيغ تعبيرية جديدة زاخرة بالرؤى والمخيلة، دون انحياز كليّ لتقنية معينة في استحضار الخلق والابتكار. وقد جمع العديد من الأدباء العرب بين الرسم والشعر والرواية، منهم الشاعر المصري الكبير صلاح جاهين، والكاتب الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا وغيرهما، وهو ما شكَّل أدوات فنية وإدراجها كعامل جذب في لوحاتهم اللفظية.

لقد ترسَّخت علاقة الانصهار بين الأدبي والتشكيلي معزِّزة لاختلاط الأجناس الأدبية والفنية خصوصاً في الخطاب الروائي، لكن دون زوال ما بينهما من حدود واستقلالية، بل هي صلة تحتمل ذلك الأثر الجمالي عند المتلقي.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى