رواية “الحديقة الحمراء” للمغربي محمد حنّا

النشرة الدولية –

يأخذ الكاتب المغربي ”محمد آيت حنا“، القارئ لرحلة خيالية غنية بالمجاز والحكائية، في روايته ”الحديقة الحمراء“، التي صدرت عن دار الجمل للنشر والتوزيع 2019.

وتتطرق الرواية إلى مساحات معرفية مختلفة حول الوجود الإنساني، ورحلة الشقاء على الأرض، وكذلك فكرة ما خلف حاجز الموت، حيثُ يحاول ”آيت حنا“، بواسطة السرد، إيصال ما حاول دانتي إيصاله بواسطة الشعر، في مجازه العالمي“ الكوميديا الإلهية“.

فيما وضحت قدرة الروائي المغربي على التقاط التركيبات اللغوية، التي لطالما شكلت إضافة لعمله، صانعا خيطا روائيا يشوبه الغموض، لكنه يعمل في أوقات عديدة مثل مشرط في الوعي.

ويتخلل ”الحديقة الحمراء“ كم مرتفع من المراوغة والفلسفة، ولا يخفى ميل ”آيت حنا“ إلى إظهار موروثه المعرفي الواسع، ومزجه بين ثنايا الأسطر، مع اعتماد الرواية بشكل مستمر على إظهار يد وإخفاء الأخرى، كأداة تشويقية.

والرواية تتعرض إلى إشكاليات متعددة في باطن المواطن العربي، أبرزها محاكاة أصوات الذهن، والنزعة التي هي بمثابة الرابط بين الكائن وطريقه.

ويعمل الروائي المغربي بطريقة التوازي بين الشخصيات مرة، وبطريقة التقاطع بينهما مرة أخرى، مرتكزا على تكنيكه السردي المخطط له بذكاء، حيثُ يجعل لكل شخصية طريقها الخاص، تشقه دونما تداخل مع الأخرى في فصول مقسمة ومتعددة، ويدمج خيوط هذه الشخصيات في نقاط تقاطع مقصودة.

أما طريقة العرض السردية، فتحتاج إلى نفَس طويل من القارئ، للوصول إلى القصدية التي يريدها ”آيت حنا“، أو على أقل تقدير اعتماد تأويل خاص.

وتعد شخصية ”الغربي بنعمرو“ شخصية مُركّبة، حيث يتداخل فيها تناقضات شائكة، تمرجح عقله ما بين الواقع والفانتازيا، إذ يعاني بنعمرو من صراع نفسي ناتج عن تداخل العالمين النقيضين في ذهنه، وشعوره بغرابة ما يحدث معه في الواقع، فيما يراه من ظل باهت لجسده، وتخبط مستمر بين حقيقة وجوده، والخيال الملازم لشخصيته، دون أن يستدل على حد فاصل بين ذلك وذاك.

ويخوض بنعمرو في عزلته الجبرية، صراعا نفسيا مع المكان، بما تحتويه شقته الصغيرة من تاريخ شخصية قديمة، سكنت المكان لمدة 40 سنة، وتتكشف له خيالات غريبة، تولد الشكوك داخله حول ذاته، وتستعيد رهبة بنعمرو مع الحوائط الملتصقة من حوله، تاريخه الخاص، ونشأته المُرة مع زوج أمه، وتحريضه المستمر له على كره ”الفقيه“، وهو ما دفع بنعمرو لضرب ابن الفقيه في رأسه، هاربا من مدينته، إلى غربة وخوف لا ينتهيان.

ويسهم عالم بنعمرو المحصور في أخذه نحو الأحلام، فيعمل على تدوين مستمر لكل تفاصيل أحلامه، ويعنونها ويؤرخها، ومتى فقد هذه العادة، تعاوده المخاوف من وهمية شخصيته، ويستعيد عدم إحساسه بالأشياء، على حقيقتها، فتنحصر علاقاته في حب من طرف وحيد لنهال المسافرة للتعليم، وعلاقة حميمية مع أمينة، التي تعمل في صيدلية تحت منزله، التي لطالما فكر في الزواج منها، حين يتخلص من عقدة حبه الوحيد، الذي يمارسه وحده، بتتبع أثر نهال على مواقع التواصل الاجتماعي، كفرصة وحيدة لمعرفة أخبارها.

وعن متلازمة تمني حال الآخر، يسلط آيت حنا ضوء مجهره، على صفات وظروف مختلفة للشخصيات الثلاث المقيمة في شقة صغيرة، الغربي بنعمرو، وعادل، والمختار، ويظهر كيف يتمنى كل منهم حياة الآخر، فكل واحد منهم يجهل المخفي داخل جسد الآخر، من ألم، وحسرة، وضجيج، وكيف أنه مغاير تماما، لما يعتقد، كمن يلمس القشرة، لا الثمرة، فيقول الكاتب على لسان كل منهم في جملة مكررة بين الفقرات: ”هما واضحان يعرفان أنفسهما والجميع يعرفهما“.

ويصنع الروائي المغربي حكائية تناصية، يعالج من خلالها قصصا وحكايا متنوعة، فتظهر في الأحداث قصة لولو وناتاشا، وحكاية يونيتي، كما تتطرق الرواية إلى التراث الأدبي، ويحاكي مقتطفات مقتبسة من كوميديا دانتي: الجحيم، المطهر، والفردوس، والتي تعد مفاتيح لنصه.

ويبرز في رواية آيت حنا صوت عبثي في تناول الأشياء، وتصفيف الخطوات، والقناعات، فكل الاحتمالات كانت مفتوحة عند شخصية حارس المرمى الذي فقد ابنته، ومن حسرته عليها، أقدم على الانتحار.

ويقول الراوي: ”لم يكن حارس المرمى يدرك الفارق بين أن ينتهي المرء هنا، أو يكمل طريقه لينهيه في مكان آخر“، وبعد موته يبقى حارس المرمى على ملامسة بالحس الأرضي، ويتحول في موته من أمين أحلام للبشر، إلى لاحم أحلام، هو من يدمج المشاهد في الصور، ويهب المعنى.

وقبل وفاة ابنته، كان يعرف حياته من خلال ضحكتها، أو حزنها، كانت معرفته، الأكثر ثقلا عن الحياة، يكتب آيت حنا عن ذلك:“ في شهور مرضها الأخيرة تبدلت معاناة الطفلة وحزنها الدائم، إلى ابتسامة، ما لبثت أن انطبعت على وجه الأب، كانا كالعاشقين الذين يحضّران لخلاصهما من هذا العالم، وصلا إلى درجة يقين أنها النهاية، فتواطآ على الابتسام“.

وفي زحام معرفته، لا ينسى آيت حنا تجميل نصه باللغة الشعرية غير المتكلفة، وكذلك إضفاء لمسة فلسفية في نصه، فلم يضع أجنحة للإنسان، بل لكلماته، يكتب مثلا:“ الناس طيور نسيت كيف تطير“.

ويقول في مكان آخر:“ ثمة التصاق وثيق بين الشيء واسمه، حين يرى الإنسان الشيء أول مرة، يفكر فيه، وفي هذا التفكير ينبثق الاسم، اللحظة التي تشهد تسمية الشيء، هي نفسها اللحظة التي ينبثق فيها هذا الشيء إلى الوجود“.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى