موت المكتب *د. خولة مطر

النشرة الدولية –

ثلاثة أشهر من الاكتشافات المستمرة لبرامج تسمح بعقد الاجتماعات عن بعد، ألم يقولوا قبل كورونا ليس كما بعدها، سقط مفهوم ثماني ساعات عمل اليومية، وطبعاً هي ثمان في دول ونصف ساعة بل عشر دقائق في دول أخرى، كثرت النكات حول الاجتماعات عبر تطبيق «زوم» أو «سكايب» أو «تيمز» وكثير غيرها.

قيل إن الرجال يكونون بالسراويل القصيرة وفوقها قميص وربطة عنق وجاكيت، أما النساء فكل ما عليهن هو أن يلبسن بنطلونات الجينز أو سراويل البيجامات وفوقها بلوزة رقيقة، لم تعد هناك حاجة للتفكير كل صباح في اختيار الفستان المناسب أو البدلة الأنيقة، لم يعد هناك حاجة لوضع المساحيق ولا حتى تصفيف الشعر، حتى أن بعض الملتقيات عبر هذه البرامج ظهرن من الدوش إلى الشاشة مباشرة بشعرهن الرطب، وكأنهن على شاطئ بحر بشمس حارقة.

كثرت المشاهد المسلية بل المضحكة في تلك الاجتماعات الافتراضية التي تمتد أحيانا لساعات طويلة مخالفة المعمول به سابقا في الاجتماعات واللقاءات الحقيقية، حيث تحدد فترة محددة للاجتماع، فامتد أحد تلك الاجتماعات الذي جمع وجوهاً من مونتريال مروراً بدوزلدورف وباريس وبيروت وإسطنبول، امتد لأكثر من ثلاث ساعات، وهنا باستطاعتك أن تتثاءب أو حتى أن تنام، ولن تصطادك كاميرا أحدهم كما فعلت مع تلك المجموعة من الرؤساء والزعماء في اجتماعات جامعتنا المبجلة!! الفتاة الشابة الرقيقة التي أدرات الاجتماع فضلت ألا تمشط شعرها، فهذا هو طبعها عندما تكون بالمنزل في زمن العزل والتباعد الاجتماعي، لمَ التعب وبعد أن قدمت ديباجة طويلة كثر فيها المديح لكل أفراد المجموعة والحضور الذي أجهد نفسه بفتح شاشة الكمبيوتر، وتكبل عناء ذلك، أليست هذه الديباجة التي يبدأ بها كل متحدث في اجتماعاتنا التقليدية؟ لم يفسر أي منهم ما هو المجهود الذي بذل في النقر على الكمبيوتر وفتحه مع التأكد من إطفاء السماعات وربما الأفضل الكاميرا أيضا مرة متحججاً بأن الإرسال ينقطع مع فتح الكاميرات وأخرى تواضعاً وترك الشاشة للآخرين!!

كانت المشاهد تتتالى وفي مجملها تبدو مادة دسمة لبرنامج كوميدي في زمن التراجيديا المرضية والاقتصادية، واحدة لم تستطع أن تمنع طفلتها الصغيرة من أن تشوش عليها وهي تتحدث عن مواضيع تبدو في غاية الجدية، وأخرى تبعد كلبها عن الشاشة، وثالث نسي أن يطفئ الميكروفون، فما كان إلا أن سمع كل الحضور من أقصى الشمال حتى الجنوب، ومن الشرق حتى الغرب، كل الحاضرين والحاضرات سمعوا صوت زوجته وهي تردد ألن تنتهي من هذا الاجتماع السخيف، وتذهب لإحضار احتياجاتنا قبل أن يقفل السوبرماركت أبوابه، أو أن تزيد الأعداد بالداخل فيوقفونك لساعات عند باب المتجر، وما إن يفتح لك الباب حتى تجد نفسك تنافس المتسابقين على جمع أكبر عدد من المواد الغذائية وغيرها إما خوفا من أن تختفي من الأسواق أو من أن تتضاعف أسعارها؟

أما ذاك الاجتماع المهم جداً والذي تناول قضايا مصيرية، فقد أطل أحدهم وهو يسوق سيارته، وآخر وهو يجلس «عفواً» في الحمام ومن خلفه الدوش!! أما ذاك المسؤول السياسي الكبير فاضطر للنهوض سريعاً ليرد على مكالمة مهمة من رئيس، وقد نسي أنه لا يزال بسرواله الداخلي فما كان من الحضور الافتراضيين إلا أن فرطوا ضحكاً متداركين ذلك عبر إطفاء الكاميرات والميكروفونات.

بعضهم يقول ما أحلى العمل المنزلي بعيداً عن الأنظار والمجاملات والرسميات والصراعات الداخلية، وآخرون يرددون وهم عائدون بنصف دوما «ما أحلى الرجوع إليه»، كلٌّ له موقف حسب ظروفه ومطالبه، فهل اقتربنا من الإعلان عن موت العمل المكتبي والانتقال الى العمل من «منازلهم» متذكرين تلك المرحلة عندما كان يتخلف طالب عن الدراسة لسنة واحدة، فيقال لهم طلاب المنازل ولا يراهم أحد إلا في موعد الامتحانات؟ ربما لن يكون المكتب هو الذي سينقرض فقط، بل حتى السفر لمسافات طويلة والسفر المتكرر والسفر على درجات رجال الأعمال تلك الدرجة التي تحولت إلى درجة أطفال الأثرياء ومربياتهم، هي حكاية أخرى لانتهاء مرحلة وبداية أخرى ربما!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى