الغرب يراجع تاريخه مع العبودية.. هل يفعلها العرب؟* د. نادية عويدات

النشرة الدولية –

مع جريمة مقتل جورج فلويد، اندلعت احتجاجات غير مسبوقة في الأسابيع الماضية، في الولايات المتحدة وأوروبا، ندد خلالها المتظاهرون بالإرث الجائر للعبودية في الغرب، الذي ما تزال تبعاته مستمرة حتى هذا اليوم. اجتاحت التظاهرات الكثير من الولايات الأميركية حتى وصلت إلى كانساس، التي أعطت أصواتها في الانتخابات السابقة إلى دونالد ترامب، وقد خرج من هذه الولاية “الموالية” آلاف المتظاهرين منددين بالسياسات العنيفة التي اتبعتها الحكومات المحلية، لمعالجة القضية التي شغلت الرأي العام العالمي، وأساءت إلى صورة أميركا في الداخل والخارج.

 

وفي بريطانيا أسقط متظاهرون غاضبون في مدينة بريستول، تمثال إدوارد كولستون تاجر الرقيق، وألقوا به في نهر آفون. كما شهدت لندن وباريس وبرلين تظاهرات كبرى مناهضة للعنصرية. في غضون ذلك، انتعشت مبيعات الكتب التي تتناول إرث العبودية، وأصبحت ضمن قائمة الأكثر مبيعا في الأسواق، وخلت بعض المكتبات من أهم الكتب عن هذا الموضوع، وذلك بسبب الإقبال الزائد على شرائها، ما يدل على رغبة عامة في فهم تاريخ هذه الظاهرة المنافية للقيم والتقاليد الديمقراطية في الغرب. اللافت في هذه التظاهرات أن أغلبية المتظاهرين المطالبين بالعدالة الاجتماعية للمواطنين السود، والمطالبين بتصحيح التاريخ هم من البيض.

 

عند النظر في تاريخ الغرب السياسي والاجتماعي، يصبح واضحا وجليا أن الثورات الشعبية المناهضة للسياسات الجائرة، كانت دائما من أهم وأكثر الوسائل فعاليةً لتصحيح المسار، حتى وصل الغرب إلى ما هو عليه من جودة العيش وحرية في التعبير لا مثيل لهما في العالم، على الرغم من كل نواقص هذه الديمقراطية، كما تُظهر الأحداث.

 

السبي مثلا، وهو استعباد النساء والأطفال، كان جزءا لا يتجزأ من الفتوحات الإسلامية

 

فقد سبقت الديمقراطية الفرنسية الثورة الفرنسية، ورغم أنها تعثرت لعقود طويلة، إلا انها انتصرت في النهاية لإرادة الشعب، وكذلك في بريطانيا، في بداية القرن التاسع عشر، حين خرج آلاف المتظاهرين للمطالبة بالعدالة السياسية، والتمثيل الديمقراطي لكافة أبناء الشعب. تلك التظاهرة التي حاولت الحكومة إيقافها بالعنف أدت عام 1819 إلى مقتل أحد عشر شخصا، وسميت الحادثة بمجزرة “بيتر لو”. هذه المجزرة تم تخليدها ببناء صرح يذكّر بانتصار صوت الشعب، حيث تغيّر القانون ليصبح لكل بريطاني الحق في المشاركة السياسية.

 

في الولايات المتحدة انتهت العبودية عام 1863، وهي متأخرة جدا عن الدول الأوروبية، حيث منعت التجارة بالعبيد في كثير من الدول الأوروبية من حوالي ألف عام، رغم أن بعض الدول، مثل بريطانيا منعت العبودية عام 1102، إلا أن الاتجار بالبشر كان يمارس في المستعمرات البريطانية حتى تم منعه تماما في الإمبراطورية البريطانية الحديثة، بداية القرن التاسع عشر. ليس هذا فحسب، ربما للتعويض عن ماضيها، أصبحت بريطانيا ترسل سفنا حربية، مهمتها الوحيدة منع الاتجار بالبشر، وأدت هذه السياسة مثلا في أفريقيا لسقوط كثير من الأنظمة، التي كانت تعتمد على العبودية في اقتصادها.

 

مرّت الولايات المتحدة بمراحل كثير لتصل إلى تظاهرات اليوم، ومنها الحرب الأهلية والحراك السلمي في الستينيات، الذي قاده مارتن لوثر كينغ، وفي كل مرة يحصل تقدم، ولو كان بطيئا، ولكن لا يصل لمستوى التطلعات.

 

تعاطي الإدارة الأميركية مع قضية جورج فلويد دفع بعض الأقلام العربية إلى التأكيد على “عنصرية” أميركا، فيما ذهب فريق آخر إلى الشماتة بـ”النظام الأميركي” ومقارنته بالأنظمة العربية، التي تستقوي على شعوبها بالعسكر، لا سيما بعد تسريبات تبين لاحقا أنها “غير دقيقة” حول نية ترامب إنزال الجيش الأميركي إلى الشوارع لمواجهة المتظاهرين.

 

يبقى السؤال، ماذا عن العبودية في العالم العربي؟ وكم من الوقت سيمضي قبل أن نبدأ في العالم العربي والإسلامي في النظر لتاريخ العبودية بطريقة أكثر موضوعية. العبودية، خصوصا عبودية الأطفال ليكونوا جنودا للخلافة وعبودية الطفلات ليكن عبدات جنس. كان هذا جزءا من التاريخ الإسلامي لألف وخمسمئة عام، حتى فرض الغرب هيمنته، وتم تمرير قوانين تمنع العبودية عالميا في القرن الماضي، فتوقفت العبودية في العالم الإسلامي رغم شرعيتها فقهيا.

 

فالسبي مثلا، وهو استعباد النساء والأطفال، كان جزءا لا يتجزأ من الفتوحات، ونزلت آيات تشرّع إقامة علاقات جنسية مع السبايا، حتى لو كُن متزوجات بقوله تعالى، “إلا ما ملكت أيمانكم” كاستثناء عن حرمة المتزوجات إلا غير المسلمات الآتي يستولي عليهن المجاهدون في الغزوات.

 

لا يوجد حد أدنى لعدد السبايا اللاتي يُسمح بهن، مما ألهم الكثير من الخلفاء والأغنياء بإقامة مكان للحريم يتجمع فيه أحيانا الآلاف من البنات والنساء، بهدف إرضاء الغايات الجنسية لرجل واحد فقط.

 

في التاريخ الحديث، ورغم أن جموع المسلمين استنكروا ما قام به كوادر تنظيم “داعش” من استعباد آلاف المواطنات العراقيات والسوريات، إلا أننا لم نر مظاهرات حول العالم الإسلامي ضد هذه الظاهرة، ولم نر نقاشا مجتمعيا جريئا عن تاريخها.

 

وخذ مثلا الإمبراطورية العثمانية التي ورثت الاعتماد على “العبيد” في تكوين الجيوش من الخلافة العباسية وجعلت منه أساس الدولة، التي قامت بشكل كبير على استعباد الأطفال غير المسلمين (أغلبهم من المسيحيين) الذين يُستولى عليهم بالغزوات، أو حين الاشتراط على المدن التي كانوا يغزونها بتسليم عدد معين من “العبيد” مقابل السلام من بطش الفتوحات.

 

رغم أن جموع المسلمين استنكروا ما قام به كوادر تنظيم “داعش” من استعباد آلاف المواطنات العراقيات والسوريات، إلا أننا لم نر مظاهرات حول العالم الإسلامي ضد هذه الظاهرة، ولم نر نقاشا مجتمعيا جريئا عن تاريخها

 

استعبدت الإمبراطورية العثمانية وحدها ملايين الأطفال، خلال قرون معدودة، حيث كان يتم تغيير ديانة هؤلاء الأطفال للإسلام، ثم تنشئتهم نشأة إسلامية، ليصبحوا جنود الدولة وموظفيها ملكا للسلطان، من دون أن يكون لهم حق التملك أو الزواج أحيانا، من دون إذن المالك، أو قبل أن يمتلكوا حريتهم. أما عن الفتيات فيسارع البعض للمفاخرة بأن بعضهن كن أمهات للسلاطين، وكأن هذا يبرر استعباد واغتصاب الملايين.

 

الكثير من الباحثين يهتفون بإنسانية العبودية تحت الحكم الإسلامي، مقارنة مع العبودية في سائر أرجاء الأرض. هناك قناعة بأنه إذا كنا نحن من يقوم باستعباد أطفال الآخرين وتغيير دياناتهم واحتلال أوطانهم، فلا بد أنه لدينا الحق بذلك، بل لا بد أنه عمل رحيم ونُحمد عليه. ألم نهدِهم لديننا؟! فليحمدوا ربهم أننا نحن من دون البشر من استعبدناهم، وكأن الأفراد أو الحكومات الإسلامية معصومة تماما عن وحشية استعباد البشر. رغم أن التاريخ حتى الآن يظهر أن هذه أنظمة لا تكن الرحمة لمواطنيها، بل حتى لا ترى لهم أي حق في تقرير مصير بلادهم.

 

هذا الإرث لا يزال يعيشه معظم الدول الإسلامية، والكثير من دول العالم الثالث، حيث لا يملك مواطنو دول بأكملها، كما في بعض دول الخليج، حق التصويت في انتخابات، أو حتى الهمس بحق بالمشاركة أو المساءلة السياسية، من دون أن ينتج هذا عن ردود فعل إجرامية، كما حدث مع الكاتب جمال خاشقجي، والتاريخ، لمن ينظر، مليء بأمثال خاشقجي، فلا يزال القمع والعنف هما الحال السائد باستثناءات قليلة.

 

ربما عن جهل أو عن سذاجة، نُصِر في وهمنا الجمعي، على أن تاريخنا يحُتذى (وطبعا يا ويل كل باحث أو مؤرخ أو كاتب يختلف معنا في الرأي، ويتناول أي حادثة تاريخية لا تظهرنا ملائكة). في الوقت نفسه، نعبر عن استنكارنا لتاريخ الغرب المتوحش لدرجة تمنعنا من رؤية الشجاعة الكامنة في إعادة النظر في التاريخ، مهما كانت مؤلمة، لكي يتم تصحيح المسار. هل يا ترى ستسنح لنا الفرصة لنكون بهذه الشجاعة؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button