جان ميلييه ينحاز إلى الإنسانيّة* مادونا عسكر
النشرة الدولية –
الإنسان عقل يفكر ويرتقي وقلب يحبّ، يدفع العقل للسّلوك بضمير حيّ وإرادة حرّة بمعزلٍ عن أيّ ضغوطات فكريّة أو عقائديّة أو أيديولوجيّة. إنّه الإنسان كما هو وكما يجب أن يكون بجوهره العاقل والمحبّ. قد نختلف على تحديد الأساليب المنطقيّة المؤدّية إلى نتائج سليمة، وقد نختلف على تعريف المحبّة وكيفيّة السّلوك فيها، وما إذا كانت مطلقة أو خاضعة إلى أصول محدّدة. إلّا أنّ الإنسان الحقّ هو الجامع في جوهره العقل والقلب اللّذين يكوّنان الضّمير. وما هو الضّمير غير عقل متّزن يتحرّك بدافع المحبة؟ وما هو الضّمير غير صوت المحبّة الموجّه للعقل؟
الأب جان ميلييه Jean Meslier، كاهن كاثوليكيّ عاش في أواخر القرن السّابع عشر وبداية القرن الثّامن عشر. إرضاء لوالديه واصل دراسته الدّينيّة على الرّغم من عدم تحمّسه للفكرة، وما لبث أن عيّن كاهناً على رعيّة إتريبنييه Étrépigny الفرنسيّة وخدم رعيّته طيلة أربعين عاماً بهدوء ومحبّة مبتعداً عن الأضواء في عصر كانت فيه الكنيسة مسيطرة بالكامل على عقول النّاس وحياتهم ومصائرهم. ناهيك عن أنّ أي خلاف صريح لمسلّمات الكاثوليكيّة يمكن أن يجعل المخالف وقوداً لعذابات محاكم التّفتيش.
كان الأب جان ميلييه محبوباً من أبناء رعيّته خاصّة الفلّاحين والفقراء والمستضعفين. عرف بلطفه ومحبّته وأخلاقه الحميدة ولم يتوانَ عن الأخذ بأيدي أبناء رعيّته ومساعدتهم ومساندتهم. إلّا أنّ جان ميلييه صدم الجميع بما فيه السّلطة الكنسيّة بوصيّة اكتُشفت بعد مماته تبيّن أنّه احترم العقيدة والإيمان المسيحيّ ظاهريّاً، وأمّا في السّر وطيلة أربعةعقود تبيّن الوصيّة أو الرّسالة الفلسفيّة المتضمّنة ما يقارب الخمسمائة صفحةونشرها رودولف شارل سنة 1864 تحت عنوان “Le testament Jean Meslier”، والموجّهة إلى سكان القرى والمدن والسّلطة الكنسيّة إلحاده ورفضه للأديان وآراءه السّلبيّة فيها. ما كان سببّاً لعدم دفنه في مقابر الكنيسة وعدم تسجيله في سجلّ الموتى، ولا نعرف إلى اليوم أين دفن الكاهن الكاثوليكي الملحد.
قد يتساءل البعض عن قدرة الأب ميلييه على كتمان سرّه أربعين عاماً. ويمكن الرّد على هذا التّساؤل ببساطة إذ إنّ الخوف من السّلطة الكنسيّة المسيطرة كان سببّاً منطقيّاً لعدم إعلانه عن إلحاده. فلا ريب أن ميلييه لم يرغب في المثول أمام محكمة التّفتيش أو الموت حرقاً أو ذبحاً أو شنقاً. وقد يحتار البعض الآخر في سلوك الأب ميلييه تجاه رعيّته وأمانته وتفانيه في الخدمة. وفي هذا كلام آخر، واستشفاف للحالة الإنسانيّة الواحدة في كلّ زمان ومكان. فعلى الرّغم من الضّغط النّفسيّ الّذي عاشه ميلييه كونه غير قادر على إعلان إلحاده ومناقشة أفكاره المعتمدة على النظريّة العقليّة فقط. وعلى الرّغم من رفضه للعقيدة المسيحيّة ورفضه للأديان بشكل عام، وعلى الرّغم من الواقع المعيش المعاين لفظائع كثيرة ارتكبت بحقّ أبرياء إلّا أنّ الأب جان ميلييه تصرّف كإنسان. وأمّا أفكاره وقناعاته الإلحاديّة وآراؤه الدّاعية للاشتراكية الّتي تأثّر بها الكثير من مفكّري عصر التّنوير، فلم تقف حاجزاً أمام إنسانيّته الجامعة للعقل المفكر والقلب المحبّ.
تصرّف جان ميلييه بضمير حيّ ومحبّة حقيقيّة تجاه الفقراء والمستضعفين وذوي الاحتياج، مع أنّه كان بإمكانه أن يستفيد من كهنوته آنذاك ويسلك سلوك السّلطة الكنسيّة وينزع طبيعيّاً إلى الانتقام أو الظّلم. كما كان بإمكانه أن ينتقد السّلطة الكنسيّة ويتحدّاها وينتهي به الأمر إلى الموت. أو أن يتصرّف كملحد في زيّ كاهن أو يمارس كهنوته كوظيفة. إلّا أنّ ميلييه تصرّف إنسانيّاً وضميريّاً وبإرادة حرّة بمعزل عن أيّ منهج عقائدي أو إيمانيّ. ولا ريب أنّ الدّافع هو المحبّة. فلئن قيل إنّ الأب ميلييه كان محبوباً من رعيّته فذاك يعني أنّه تصرّف عمليّاً بما يتوافق وهذا التّفاعل المحبّ. إذ لا يمكن للإنسان أن يشعر بضعف الآخر وحاجته أيّاً كانت الحاجة، سواء أكانت ماديّة أم معنويّة، إلّا إذا حمل في عمقه المحبّة. ولا يمكن للإنسان أن يحمل رؤية للمستقبل داعياً من خلالها إلى توحيد الصّفوف وإلغاء الطّبقيّة الاجتماعيّة إلّا إذا تمتّع بعقل مثقّف ومتّزن يدفعه إلى احترام الحرّيّة والحقوق الإنسانيّة. ولا يمنع الإنسان عن الظّلم والانتقام إلّا الضّمير الحيّ ونبذ السّلطويّة. فيسعى إلى الاهتمام بشأن الآخر ومساندته وتشجيعه إلى المضي قدماً.
القيمة الإنسانيّة واحدة، أكان الإنسان ملحداً أو مؤمناً أو علمانيّاً. وغالب الظّنّ أنّ هذه التّصنيفات تخلق حواجز بين البشر وتقيّد إنسانيّة الإنسان وتحجب عنه الرّؤية العميقة لأخيه الإنسان فيتعالى ويتكبّر وينغمس في الإعلاء الوهميّ للذّات. فإمّا يشعر أنّه ملاحق أبداً وإمّا يشعر أنّه محور الكون. قد تكون هذه التّصنيفات أسهل للعقل إلّا أنّها غير موجودة في حقيقة القيمة الإنسانيّة. فالإنسان هو الإنسان، وإذا ما تكاسل في السّعي إلى تنمية العقل وتطويره وتثقيفه، وتوانى عن اكتشاف عمق المحبّة المتأصّلة في داخله، وتراخى في تدريب ذاته على مناقشة الآخر واحترام عقله وإرادته وخبراته وتجاربه، بقي مشروع إنسان ملقىً على حافّة هذا الوجود.