في نقد واقعنا العربي: قبول الاختلاف هو الحل!* د. نادية عويدات

النشرة الدولية –

ظاهرة الاختلاف والقبول به قديمة حتى في الحضارات السابقة، لكننا نفتقر لها في عالمنا العربي، وهذا ليس من باب جلد الذات، لكنه الواقع الذي تعيشه بلداننا منذ خروج “المستعمر” حتى يومنا هذا، حيث تحكمنا الإمارات والأنظمة التي ورثت “الاستقلال”.

ولأننا شعوب محرومة من صوت الاختلاف، ومدمنة على اللون الواحد، تجد برلماناتنا العربية تأخذ قرارتها بـ”الإجماع”، ناهيك عن الانتخابات الرئاسية التي تصل أحيانا إلى تصويت “الشعب” بنسبة 90 في المئة، أو أكثر، لصالح الدكتاتور “السيد الرئيس” الذي في حال تواضع وسمح بانتخابات “نزيهة” فإنه هو من سيختار خصومه بعناية فائقة.

والمفارقة هنا، أن هذه الأنظمة معادية للأحزاب الدينية، وتقدم نفسها بصورة حداثية تماهي الغرب، لكنها في نفس الوقت، ترى في الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية قيما مزيفة طالما مصدرها الغرب الاستعماري، الطامع بخيرات بلداننا، والذي، كما تذكرنا ليلا نهارا، لا يتوقف عن “التآمر” على مستقبل أمتنا.

أذكر عندما كنت طفلة أشاهد القنوات العربية، وبغض النظر عن مصدر الأخبار، كانت نشرة الأخبار تقتصر دائما على الأخبار الجيدة وإنجازات الحاكم العديدة في هذا البلد أو ذاك. لا أتذكر تغطية لأي نوع من الأخبار السيئة. وعندما هاجرت إلى الولايات المتحدة في أواخر العام 1999، جاءت أولى صدماتي الثقافية عند مشاهدة التلفاز. كانت البرامج، بغض النظر عن ميولها السياسي سواء كان ديمقراطيا أو جمهوريا، تتناول مشاكل البلاد بالتفصيل والتحليل والتمحيص. صعقت وكانت ردة فعلي الأولى، أن بلادنا ـ ولله الحمد ـ تخلو تماما من أي تحديات مثل التي أسمع عنها في القنوات الغربية.

لماذا لا تستطيع أنظمتنا ومجتمعاتنا تحمل أي شيء سوى المديح وإلا فالعنف هو الرد الوحيد؟

الثقافة الغربية بشكل عام، ودون سواها من ثقافات العالم، تقوم على المسؤولية الفردية وتقوم ببرمجة هذا في مواطنيها منذ الطفولة. ولأننا خُلقنا أفرادا مختلفين، لا يملك اثنان منا نفس البصمة، فالاختلاف جزء لا يتجزأ من الطبيعة البشرية. والمتابع لما يحدث في الكثير في الدول الغربية قد يبدو له أنها تواجه تحديات بسبب كثرة وتعدد الأصوات التي تحاول المساهمة في تسيير أمور البلاد. لكن المشاكل التي نسمع عنها في شاشات الفضائيات هي جزء لا يتجزأ من مفاهيم الشفافية، والمساءلة وحرية الفكر والتعبير وهي أيضا جزء من منظومة اجتماعية سياسية تقوم باستمرار بمراجعات يرافقها تداول سلمي للسلطة.

قد يبدو للموطن العربي المعتاد على نمطين فقط من الأخبار (نقد الغرب ولومه على عدم حل مشاكلنا ومدح النفس بالتركيز على خصوصيتنا واستثنائيتنا) أن ما يحصل في كثير من البلاد الغربية هو فضائح كبرى ومتواصلة تدل على خراب الغرب أو على وشك انهياره. في الحقيقة، ويستطيع الكبار في السن أن يتحققوا من ذلك، فإن المخمنين بانهيار الغرب سياسيا وأخلاقيا أو المتأملين له يتنبؤون بذلك منذ أزل ومع ذلك لا تزال الدول الغربية الوجه المفضلة للهجرة والبلاد الأكثر ديمقراطية وأمنا.

وبينما كان البعض مشغولا بكتابة شهادة وفاة الغرب، اخترع هذا الغرب الإنترنت والأجهزة الذكية وأحدث نقلة نوعية في التكنولوجيا وغير العالم للمرة الألف. هكذا تماما هي الديمقراطية والتطور الذي يحدث في الغرب منذ نصف قرن على الأقل والذي لا يحدث بالرغم من هذه الفضائح بل بسبب وجود بيئة تسمح بها. الدارس للتاريخ يعلم أن تاريخ الديمقراطية ومنذ نعومة أظافره كان دائما صاخبا ومليئا بالفضائح فهناك إعلام مستقل وتعددية حقيقية لذا فإن الديمقراطيات الناجحة تعمل مع تعدديتها كسمفونية تتشارك في صنعها أصوات آلات متعددة كبيرة وصغيرة ولكنها معا تصنع إلهاما تتوق إليه باقي شعوب العالم.

في المقابل، معظم الثقافات الأخرى لا يبدو أنها تستطيع استيعاب الاختلاف فتقوم بتقديس نوع معين من السياسة الاجتماعية والسياسية والدينية يسمونه “الوحدة” يقوم على طاعة أولياء الأمور ويرى في الاختلاف، سواء العقائدي أو الديني أو الثقافي أو الشخصي خطرا يجب التخلص منه.

لذا ترى الطوائف المختلفة، سواء كانت شيعية أو سنية أو الأحزاب السياسية سواء المسيطرة أم المعارضة تشعر أنها لا تستطيع أن تستريح حتى تقضي على الطوائف الأخرى أو تقلصها بحيث تصبح الأغلبية من لون واحد “مطيع” لا قدرة له على الاختلاف أو المساهمة الفعالة.

مهما كانت خلفية الدكتاتور أو الطاغية، فما دام يرى في الوحدة صوتا واحدا ألا وهو صوته فإنه بلا شك يرى في التعددية شهادة موته

هذا النوع من الوحدة ليس مقتصرا على ثقافتنا بل وجد في كل خطاب كل متطرف ودكتاتوري. فحسن البنا مثلا، شجع في كتاباته أن يرتدي المسلمين في كافة أنحاء العالم نفس الزي ليكونوا متشابهين لا اختلاف بينهم بينما أراد أن يتقلص تعليم البنات فقط لمواد معينة ومحدودة. وخذ الصين التي لا تسمح بغير حزب واحد وهو الحزب الشيوعي وتخاف أن يخرج الشعب عن سيطرتها إذا استطاع استخدام غوغل كما يشاء فيمنع شعبه من ذلك.

فمهما كانت خلفية الدكتاتور أو الطاغية، فما دام يرى في الوحدة صوتا واحدا ألا وهو صوته فإنه بلا شك يرى في التعددية شهادة موته.

الداعين إلى هكذا وحدة ليس لديهم القدرة على التنافس بقوة أفعالهم وأفكارهم وحدها. هم بحاجة لمنع أي جهة أخرى من المشاركة في المنافسة لكي يستطيعوا التغلب والانتصار في كل مرة. هل تتخيلون لعبة لا يسمح إلا بشخص أو مجموعة واحدة اللعب لكي تضمن فوزها في كل مرة؟

السؤال الذي يفرض نفسه، لماذا ليس لدينا القدرة في العالم العربي على نفس الدرجة من النقد العلني؟ لماذا لا تستطيع أنظمتنا ومجتمعاتنا تحمل أي شيء سوى المديح وإلا فالعنف هو الرد الوحيد؟ ربما البعض يرى فيما يحدث في الغرب على أنه حرية مفرطة ومخجلة. لكن أيهما أفضل؟ أن نُبقي على مشاكلنا وتحدياتنا متقوقعة حتى تنفجر بلادنا وتصبح سجن يتوق كل من فيه للهرب خارجه؟ أم أن نمشي نحو منظومة قد تكشف مشاكلنا على العلن، لكن هذا الكشف هو بداية الطريق لإيجاد الحلول؟

ألا يكفي العراق وسوريا واليمن ولبنان والسودان كدول فاشلة؟ هل يا ترى القمع نتيجة لسرطان “ماذا سيقول عنا الناس؟” بحيث نتعلم منذ الطفولة أنه يجب التظاهر بأن كل شيء على ما يرام؟ مما لا شك فيه أن التكتم يفيد أولا وأخيرا الدكتاتور أو الجاني وليس الضحية. لذا على شعوبنا أن تقرر إذا كان ثمن الحرية والديمقراطية يستحق الدفع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى