المستقبلية التي تواطأت مع الفاشية
النشرة الدولية –
المستقبلية هي حركة طلائعية إيطالية، عاصرت التكعيبية الفرنسية والبنائية الروسية، تأسّست عام 1909 بمبادرة من الكاتب والشاعر فيليبو تومّاسو مارينيتّي الذي ولد في الإسكندرية بمصر عام 1876، وتوفي في بيلّاجو بإيطاليا عام 1944، وكانت الحياة العصرية والآلة وكذلك الحرب مواضيعه المفضلة.
تسيّست الحركة منذ انطلاقها ومارست خطابا عنيفا التقى حوله جاكومو بالاّ، وأومبرتو بوتشوني، وكارلو كارّا، ولويجي روسّولو، وجينو سيفريني، وأنطونيو سانت إيليا، وكانوا كلهم يشاركون مارينيتّي نضاله الأناركي والاجتماعي.
ديانة جديدة
الحركة الإيطالية أعلنت عن تأسيسها في باريس في 20 فبراير 1909، في بيان نشره مارينيتّي على أعمدة جريدة لوفيغارو، أوضح فيه برنامج الحركة الذي يمزج الفن بالسياسة، في وقت شهد تنامي الدعاية الإشهارية ومحاولة كسب الرأي العام، ثم نشر بيانا ثانيا في ميلانو أعرب فيه الموقّعون عن عزمهم تجديد الفن. ولم تكتف الحركة بالفنون الجميلة وحدها، بل انفتحت على الأدب والشعر والنحت والموسيقى، ونظّمت أول معرض لها في باريس عام 1912.
ما يميز المستقبلية معارضتها للماضي وتقاليده، واحتفاؤها بالحداثة والتطور التكنولوجي، فهي تدعو إلى تجديد الفن، بل تعتبر أن “المستقبلية هي الديانة الجديدة”، ولكن بخطاب عنيف، إذ كانت تدعو إلى التخلي عن المتاحف العديدة، وتدمير المكتبات، بل إن مارينيتّي صرّح قائلا “سيارة سباق أجمل من تمثال النصر المجنّح” (الذي عثر عليه عام 1863 في جزيرة ساموثراكي اليونانية، وهو تحفة فنية محفوظة بمتحف اللوفر، تمثل إلهة النصر عند الإغريق).
واستفاد المستقبليون من تقنية التقسيم ومن التكعيبية في مزج الأشكال والأنساق والألوان والأضواء في ما بينها للتعبير عن “إحساس ديناميكي حركيّ” في نوع من تزامن الأمزجة والهياكل المتعدّدة للعالم المرئي، فهم يدعون إلى حب السرعة والآلة، ويمتدحون السيارات، كما ينادون بتخليص إيطاليا من العبادة الأركيولوجية للماضي، بل إن مارينيتّي صرّح أنه من أتباع الداروينية الاجتماعية (وهو مصطلح يضم كل النظريات التي تدّعي القدرة على تطبيق نظرية التطور الداروينية على المجتمعات البشرية، وكان أول من جاء بها الأناركي الفرنسي إميل غوتيي عام 1880)، وأن “الحرب هي الوسيلة الوحيدة لتطهير العالم”.
أما رفيقه أومبرتو بوتشوني، الذي توفي عام 1916 متأثرا بجروحه عقب تجنيده في الجبهة، فقد نظّر للديناميكية التشكيلية المستقبلية، ملغيا الوسائط التكنولوجية الجديدة كالسينما والتصوير الشمسي، مندّدا ببحوث الأخوين أنطون جوليو وأرتورو براغاليا، وكذلك السينما التجريدية لأرنالدو جينّا، وبرونو كورّا، وأكّد أن يد الفنان هي وحدها الأداة الأفضل لتمرير الاندفاع الحيوي الذي يغذّي العالم.
ما يميز المستقبلية معارضتها للماضي وتقاليده، واحتفاؤها بالحداثة والتطور التكنولوجي
يحسب للمستقبليين أنهم أول من ابتدع فكرة الأداء، التي تقوم على تطبيق الفنانين لبياناتهم التأسيسية، حيث جمعوا بين الفن التشكيلي والمسرح والإثارة، ومثلوا امتدادا لفنهم فصاروا هم أنفسهم آثارا فنية من خلال الحركية المسرحية، ثم دعّموا بياناتهم بالاستفادة من مسرح المنوعات، لأنه لم يكن يملك تقليدا ولا معلمين ولا نظريات.
وفي نطاق ولعهم بالآلات، أدمجوا في عروضهم مبدأ الضجيج عن طريق موسيقى التشويش، وآلية المؤدّي، إذ كانوا يسعون إلى خلق استمرارية بين الإعدادات الركحية والمؤدّي، من خلال أعمال متزامنة مع الرقص، وأطلقوا على ذلك “المسرح التركيبي”.
اهتم المستقبليون بالحركيّة، وكانوا يفضلون من الناحية الجمالية هندسة تذكر أحيانا بالتكعيبية، ويؤكّدون على مبدأ التزامن، كما استلهموا من نظريات هنري برغسون مفهوم الزمن كتجربة حدسية. غير أنهم وضعوا معادلة بين الفن والحياة، يكون الفنان بموجبها منخرطا سياسيا، فهم يؤكّدون أن الفنان يجب أن تكون له سلطة سياسية واجتماعية، ما قادهم إلى إقامة علاقات قوية مع الأيديولوجيات الثورية لتلك المرحلة. ذلك أن المنظّر المؤسس مارينيتّي كان يؤمن بسلطة توليد الحرب، إذ يعتقد أن الحرب ضرورية لتطهير السياسة وإنتاج عالم جديد.
وقد انخرط عام 1911 كمراسل في صفوف القوات الإيطالية في حربها ضدّ تركيا، بينما كان رفيقه بوتشوني يساهم في مظاهرات تدعو إيطاليا إلى الدخول في الحرب العالمية الأولى. وما كادت الحرب تضع أوزارها حتى نشر مارينيتّي مانيفستو الحزب السياسي المستقبلي، الذي استقبل في صفوفه عددا من المقاتلين التابعين لموسوليني، قبل اعتلائه سدّة الحكم.
ورغم أن المستقبليين كانوا يُنسَبون إلى عدة حركات سياسية كالماركسية والاشتراكية والشيوعية، فإن الفاشية هي التي التصقت بهم، ذلك أنهم خلطوا الفن بالسياسة منذ التأسيس، كما أسلفنا، وأدرجوا في برنامجهم منذ انتخابات 1913 الحماية الاقتصادية للبروليتاريا والأمن والتوسّع الكولونيالي، وهي نفس المطالب التي قام عليها نظام موسوليني، فكان الانضمام إلى الفاشية نوعا من التوافق مع ذلك النظام.
وهو ما لا تنكره الحركة، ففي أحد البيانات الصادرة عام 1920، بعنوان “ما هي المستقبلية، مفاهيم أولية”، نجد الأهداف التي ترمي إليها الحركة: إنشاء جيش من المتطوعين، تحديث مصالح الأمن العام، وضرورة أن تمسك بالحكم جموع الشباب التي خاضت المعارك في الجبهات.
وموسوليني، الذي يعرف مارينيتّي منذ عام 1915، استفاد كثيرا من الوسط الفكري والثوري الذي يتحرّك فيه المستقبليون، فما إن استولى على الحكم عام 1922، حتى استلهم منهم إرادتهم الحازمة في التغيير، وخطابهم العدواني، وحسن تنظيمهم. ولم يكن ذلك ليثني مارينيتّي عن الخط الذي سار فيه، فقد عبّر في رسالته عن المستقبلية والفاشية عن الروابط التي تصل الفن بالسياسة في إيطاليا، وأبرز الدور الريادي للمستقبلية مؤكّدا على ضرورة التقارب مع الفاشية لتحقيق الأهداف المرسومة.
غير أن موسوليني، برغم تسامحه مع الفنون الحديثة عكس هتلر الذي عدّها فنّا منحرفا، خيّر التقارب مع الكنيسة الكاثوليكية والحزب المحافظ لغايات سياسية، فأدار ظهره للمستقبليين، إذ كان يرتاب من هذه الحركة ولا يريد أن يجعلها الفن الرسمي لنظامه، فصار يستحضر الميثولوجيا الرومانية، ويطنب في الإشادة بالفن الروماني، ويرفعه إلى مقام الفن القومي للطليان.
مع ذلك، ظلت تلك العلاقة ملتبسة، فمن ناحية، تعاملت الدفعة الثانية من المستقبليين أمثال إنريكو برامبوليني، وجيراردو دوتّوري، وماريو سيروني، مع النظام الفاشي، فقاموا بتزيين قاعات الحفلات الكبرى التي يمجّد فيها النظام نفسه، مثل لاموسترا ديلّا ريفوليزيوني فاشيستا (معرض الثورة الفاشية) بروما.
ومن ناحية أخرى، قبل مارينيتّي عام 1929 التدريس بالأكاديمية الملكية بإيطاليا، والحال أن المستقبليين ما انفكوا ينعتون الأكاديميات وأساتذتها بالجهل، وبكونهم يمثلون ماضيا ممجوجا. أي أن المستقبليين في معظمهم ظلوا أوفياء للسياسة الموسولونية وعبادة قائدها.
إن أغلب الأعمال الكبرى التي ارتبطت بالحركة المستقبيلة تمّ إنجازها ما بين 1909 و1915، ولئن استوحى المستقبليون تلك الأعمال من تنظيرات بوتشوني، فإنهم واصلوا اشتغالهم على ما أسموه “الفن الآلي” خلال العشرينات، قبل أن ينتقلوا إلى ما وصفوه بالجمالية الطائرة في الثلاثينات. ولم يتوقّفوا عن البحث عن سبل جديدة، ففي عام 1942، أي قبل وفاته بسنتين، أعلن مارينيتّي عن “جمالية حربية جديدة”، هي بحث آخر عن القوة والآلية.
ولكن صلة المستقبليين بالنظام الفاشي من 1919 إلى 1945 كان لها أسوأ الأثر في الوسط الفني في أوروبا كلها، وكانت سببا في تأخر اعتناق الجيل اللاحق هذا التيار. بيد أنها لم تنقطع تماما، ففي عام 1967، نشر إنزو بينيديتّو بيانا بعنوان “المستقبلية اليوم”، اقترح فيه المرور إلى مرحلة فنية ثالثة للحركة، قائلا “الأولى كانت السرعة، والثانية السباق نحو السماء، والثالثة ستكون السباق نحو الفضاء”.