رجاءٌ مضاعف* يوسف طراد
النشرة الدولية –
أهي رواية أم حقيقة وطن موجوع؟ بدأت الحكاية، حين ارتجل الحبر حياة بكلّ هزائمها الآنيّة، منتصرًا على أرق الرجاء، فكانت رواية (خيّ جيديوس) للأستاذة مارلين سعادة، التي صدرت بطبعتها الأولى سنة 2013 من ضمن منشورات مؤسّسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية.
لا يمكن للقارىء الغوص في النصوص، لأن جحيم الرواية يطفو على كلّ سطر بوصفٍ رائع، كلّ عبارة تتمرّد مع الأشخاص المعذّبة أبطال الرواية، لتنسخ واقعًا مريرًا يتأرجح مع السرد حتى الانصهار. أحد عشر فصلًا في مئةٍ وثمانية وعشرين صفحة، روت حياة أبطال متعدّدة، فليس لشخصٍ واحد احتكار دور البطولة، حاجبًا الوهج عن ملامح باقي الشخصيات، التي تكلّلت برياح مرحلةٍ مُرّة من الحرب الإهلية اللبنانية، أبطال تشابهت معاناتها في العذاب واشتركت بالألم.
هروب الطفل وسام من مجزرةٍ في قرية “الغمر” متسلّلًا في شاحنة خضار ليلًا إلى المدينة، تعرّضه لحادث صدم من سيارة هاربة من القصف، إسعافه من قبل سيّدة ونقله إلى المستشفى وتبنّيه من قبلها، هذه الأحداث كانت مدخلًا مأساويًا إلى روايةٍ لم تغب المآسي عن أحداثها. خرجت مريم من بين الجثث في الكنيسة، كأنها انعتقت من رجس الموت، لكنها دخلت مجال العدم الجاسم دموعًا في قلب الحياة… عادت بصحبة أبي ناصيف الراعي إلى منزلها في “الغمر” لتعيش مجددًا مع أوهامها وكوابيسها. انبلاج الحقد اتهامًا بالعهر من جارتها حنّة، كسر حضور الأوهام التي ترافقت بالقلق الدائم على أخيها من لحظة هروبه يوم عاصفة المجزرة، الأمر الذي أدّى إلى تغاضيها وعدم اهتمامها بالكامل بطفل الخطيئة، الذي خرج من رحم معاناتها نتيجة اغتصابها من قبل المسلّحين.
هبة البطلة الثالثة في الرواية قريبة مريم، امرأة لا يتّسع الكون لحواسها، أنشدت المعاني والأماني، فكتبت مراحل طفولتها بكتاب (مفكّرة الطفولة). رغم حبّها للوحدة بسبب ماضيها الأليم، أزهرت فرحًا وحرّيةً في حضور الحبّ، فكان العشق الجميل الموصوف من قبل الكاتبة بينها وبين عصام الشاب الجميل. بريق عينيه أعادها إلى مرحلة عابرة مرّت جميلة بطفولة بريئة مع ابن عمها وسام جاهلة قصّة ذلك البريق الذي ظهرت حقيقته لها من إطار صورة عند عمّته الافتراضية التي تبنّته. حضور عصام إلى “الغمر” برفقة حبيبته، وضعه أمام ماضي مدفون في ذاكرة مفقودة بعد حادث الصدم وهو صغير. صراخ ابن أخته شربل أعاد شريط طفولته إلى خياله مشهدًا مشهدًا، فشفي من فقدان الذاكرة ليقع مريضًا بألم الماضي الذي لم يرد أن يمضي، فأعتقه من شخصية عصام، وكانت مناجاة أليمة بحضور الاحتضار (ياليت متنا يومها يا مريم… أشعر بأنني أموت ألف مرة).
يتسارع نبض القارىء بتسارع أحداث الرواية من بدايتها إلى نهايتها، رغم الغموض الكامن في خطوط الربط الذي قاد شغف القراءة. فإبداع الكاتبة جعلنا نشارك هواجس أبطال روايتها، لكننا لم نعرف نهاية قصص هذه الأبطال ألّا عندما صفعتنا مفاجآت السرد. هبة قضت بحادث سير، عصام أصبح الأخ جيديوس في دير رهبان وسيمَ كاهنًا، شربل إبن مريم أصبح الأخ شربل سالكًا طريقًا ثابتة نحو الكهنوت.
تميّز الأسلوب بتكامل السرد إبداعًا في وصف الشعورالمتناقض، على سبيل المثال لا الحصر، تدفّق الحبر مسابقًا الاشمئزاز عند وصف الاغتصاب (شفتاه تنفثان شبقه سمومًا في فمها وكلّ ناحية من جسدها) لكنه الحبر نفسه، تعطّر بأريج مشاعر القلوب العاشقة همسًا محبّبًا عذريًا متهاديًا لقارىء الإحساس (رفع يدها إلى شفتيه وقبّلها بحنان، شعرت هبة بأنها إحمرت خجلًا حتى بياض عينيها).
ورد في الرواية وصف لتقاليد عديدة، أعادنا إلى زمنٍ مضى، ولم يأخذ معه ذكريات بقيت وشمًا في ذاكرة الجيل القديم، كتزنير الكنيسة والاعتقاد بأن تتابع الموت بكثرة، عائد لعدم وجود كاهن في الكنيسة لخدمة الذبيحة. ظهر الواقع السياسي المهترىء، بوصف حالة الموت السريري ولو تلميحًا للحكومة في تلك الحقبة الذي انسحب على الحكومات المتعاقبة (من داخل يّم الصراعات والأحداث، كانت الحكومة تتخبط في غرقها لتصعد صرخات متقطعة تشير إلى وجودها).
لم تستأذن مارلين سعادة الحياة، الحبّ، الحلم والأمل لترميم الواقع، بل استخدمت أدبًا بعيدًا عنه. ضحكت مع الطفل، تألّمت مع المنكوبة المغتصبة وأحبّت الحبّ مع العشّاق لتترجم الرجاء الساكن في أعماقنا إلى أمل الخلاص الموعود من الرب.
لماذا أيتها الكاتبة جعلت حبرك يغسل هلوسات الليل لنعيش في نهار الأمل كذبة، وأطربتينا بأغنية عتيقة بددت قلق النفوس. فأصبحت الحياة مجرد وقت عابر طريقٍ للذين لا تعنيهم الحياة، ودهشة شذى بفرحٍ أنيقٍ، لمن يعيشها دروب بسمة في غفوة عذاب الإطفال المشرّدين. من روايتك ارتشفنا نبيذ الشوق لزمن همس لنا بالعشق المكبوت، كدلال واختيال زهر الليمون.
كاتبة جعلتنا نناجي وصال الصفحات، في جنى القبلات الفكرية الندية رغبات زاهرة بنهايات مغايرة للرواية. لكن الرجاء المضاعف تفجّر شهوات على إمتداد الأحاسيس، كأنه الصواب النائم من الأزل، منعتقًا إلى حياة الكهنوت التي إبتسمت عارية من الشوائب كالشمس، وأسدلت ستارًا على العذاب من نسمات همساتها المترقرقة في ثنايا الروح.
http://www.monliban.org/monliban/ui/index.php