أول خسارة لـ “حزب الله” في لبنان* فارس خشّان
النشرة الدولية –
ترسانته العسكرية لم تُمَس. قدراته الأمنية لم تتراجع. انتشاره الإقليمي لم ينحسر. سطوته الحكومية لم تتزحزح، ومع ذلك لحقت به خسارة كبيرة في لبنان.
كيف ذلك؟
منذ خروج رئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان من القصر الجمهوري في 24 مايو 2014، نجح “حزب الله” في إخراج “إعلان بعبدا” الذي يطالب بتحييد لبنان عن صراعات المنطقة وحروبها، من الأدبيات السياسية.
الأطراف الأساسيون في لبنان الذين وقّعوا “الإعلان التحييدي”، هم أنفسهم ساعدوا “حزب الله” في نجاحه هذا، على اعتبار أنهم وضعوا نصب أعينهم مواقعهم وحصصهم في السلطة، وتطلعوا إلى أن يكونوا شركاء في صفقة سلطوية شاملة، تبدأ برئاسة الجمهورية وتمر بالحكومة وتصل إلى قانون الانتخاب.
ومع إخراج “إعلان بعبدا” من الأدبيات السياسية، خرج معه أيضا سلاح “حزب الله”، فيما تعرضت الأقلية التي كانت مصرّة على مقاومة هذا “الإخراج” لحملة سخرية من أولئك الذين يُفترض بهم أن يكونوا حلفاء طبيعيين لها.
واعتبرت الأطراف التي تشاركت مع “حزب الله” في الصفقة السلطوية أنه حان الوقت أن يضع الجميع الخلافات السياسية، بكل عناوينها، خارج الاهتمام، من أجل التركيز على مصالح المواطن ومشاكله ولقمة عيشه.
البعض الآخر، يعتبر أن رد الحزب، مهما كانت طبيعته، لن يكون أكثر من “حفر في الهاوية”
ونتيجة لهذه الصفقة السلطوية، أخذ “حزب الله” راحته في لبنان، فشارك هانئا في حروب المنطقة وصراعات محاورها.
ووسط تسليم الجميع له بما يرتأي، أرسل مقاتليه إلى حيث يشاء “الحرس الثوري الإيراني”، ونشر فرقه الأمنية حيث طُلِب منه أن يفعل، وهاجم الدول الصديقة التي تشكّل، على المستويات المالية والاقتصادية والاستثمارية والتوظيفية، امتدادا استراتيجيا للبنان، وذهبت به النشوة إلى مستوى تباهي أمينه العام حسن نصرالله بأن “موازنة “حزب الله” ورواتبه ومصاريفه وأكله وشربه وسلاحه وصواريخه، كلّها تأتي من إيران”.
وبذلك، أسقطت القوى اللبنانية الفاعلة مبادئها الوطنية، فيما رفع “حزب الله” عاليا لواء التبعية.
وعلى الرغم من تلمّس الجميع أن هذه الصفقة السلطوية، بفلسفتها وبتطبيقاتها، أتت بمفاعيل عكسية على لبنان واللبنانيين، إذ أنها بدل أن تعزّز وضع البلاد والعباد، بدأت تضرب المقوّمات المالية والاقتصادية، إلا أن شيئا لم يتغيّر في لبنان، فبقي الصامتون على صمتهم وأمعن “حزب الله” في نهجه.
وأخطر الإشارات وردت من أربعة مصادر:
“جامعة الدول العربية” التي أدرجت “حزب الله” المشارك في الحكومة في خانة التنظيمات الإرهابية، وبعدها “مجلس التعاون الخليجي”، وقرّرت واشنطن التي فرض عقوبات على المصارف اللبنانية التي تتعامل مع “حزب الله”، وسعت السعودية، في أسلوب سيّء، إلى فرط الصفقة السياسية من خلال دفع رئيس الحكومة سعد الحريري إلى الاستقالة في رسالة تلفزيونية حمّلت “حزب الله” وإيران مسؤولية ما آلت إليه أوضاع لبنان وعلاقاته العربية والدولية.
وأنتجت هذه القرارات العربية والدولية قلقا في أسواق المال العالمية كما في بيوت الاستثمار الدولية، فبدأ يخف التدفق المالي على لبنان والاهتمام الاستثماري به، حتى أصبح شحيحا هنا ومعدوما هناك.
وعندما انعقد مؤتمر “سيدر” في باريس الذي سعى إلى إعادة الجاذبية الاستثمارية للبنان، ركّز السياسيون اللبنانيون على الشق التقني منه، وأهملوا الشق السياسي الذي بدا بمثابة تذكير للبنان بوجوب الالتزام بتعهداته سواء لجهة النأي بالنفس أم لجهة احترام قرارات مجلس الامن الدولية.
فعل السياسيون اللبنانيون كل ذلك حتى لا يزعجوا “حزب الله”، على اعتبار أنه يمسك بمزلاج باب السلطة، وهو قادر على فتحه أمام من يشاء وعلى إغلاقه في وجه من يشاء.
وضرب “حزب الله” عرض الحائط بكل هذه الرسائل والإشارات، فواظب، متكئا على هيمنته الداخلية، على مواصلة دوره كخادم أمين للأجندة الإيرانية.
كان يكفي أن تتبنّى بكركي مطلب “تحييد لبنان” حتى تتلاحق المواقف الداعمة لها
ولكن في الأسابيع الأخيرة، ومع تلاحق الرسائل الخارجية المرتبطة بطلبات مساعدة لبنان على التخفيف من حدّة أزمته المالية والاقتصادية والاجتماعية، سقط المحظور، وعاد كثيرون إلى وعيهم السياسي.
أدركوا أن مشكلة لبنان الحقيقية ليست مشكلة تقنية، بل هي قبل أيّ شيء آخر مشكلة سياسية.
لم يكتشف هؤلاء البارود عندما عادوا إلى وعيهم السياسي، بل عادوا واكتشفوا ألسنتهم فطهّروها من “القوالب الخشبية”، وبدأوا يتحدّثون بقناعة عن تأثير الأدوار التي يلعبها “حزب الله” في الخارج لمصلحة “الحرس الثوري الإيراني” على وقوع لبنان في الحفرة.
وكان يكفي أن تتبنّى بكركي مطلب “تحييد لبنان” حتى تتلاحق المواقف الداعمة لها، من كل حدب وصوب، ويصبح هذا المطلب من المواضيع المطروحة على طاولة النقاش الوطني والسياسي والشعبي.
و”التحييد” في القاموس اللبناني لا يعني سوى شيء واحد، وهو وجوب أن يخرج “حزب الله” من حروب المنطقة ومحاورها، ويتوقّف عن أداء أدوار سلبية ضد الدول الصديقة للبنان.
والبطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي، في رفعه لواء تحييد لبنان، “ليس مقطوعا من شجرة” بل هو يستند إلى دعم ستترجمه فرنسا، المتناغمة لبنانيا مع الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، في الزيارة المنتظرة لوزير خارجيتها جان إيف لودريان لبيروت وإلى دخول مباشر للفاتيكان على الخط، إعلاميا ودبلوماسيا.
وهكذا يكون “حزب الله” قد خسر أهم إنجاز حققه على مدى أربعة أعوام، وعاد في ظل أزمة وجودية إلى الواجهة، ليس انطلاقا من تأثيره السلبي المانع لقيام الدولة، فحسب بل انطلاقا من أن الصراعات التي يخوضها لمصلحة “ولي نعمته” قد حرمت اللبنانيين من لقمة عيشهم ومن وطنهم.
وهكذا يكون “حزب الله” قد خسر صمتا فرضه على البلاد على امتداد أربعة أعوام، على الأقل.
بطبيعة الحال، ستلتزم الحكومة اللبنانية صمتا مطبقا، حيال هذه المسألة، لأنها وُلدت بإرادة “حزب الله” ولأنها تبقى في مكانها بفضل “حزب الله”.
ولكن هذه الحكومة بالتحديد، لا قيمة معنوية وسياسية لها في وجدان اللبنانيين، فهم لا يتعاطون، واقعيا معها، إلا بصفتها واحدة من أذرع “حزب الله” في السلطة، وهذا الأمر ينطبق أيضا على رئيس الجمهورية ميشال عون، على الرغم من أنه، بين فترة وأخرى، وبمبرر الاختلاف على ملف تقني، يتيح لمناصريه في “التيار الوطني الحر” الذي سلّمه إلى صهره جبران باسيل، أن يشتبك “سياديا” مع “حزب الله”.
أدرك كثيرون أن مشكلة لبنان الحقيقية ليست مشكلة تقنية، بل هي قبل أيّ شيء آخر مشكلة سياسية
وهذا يعني، عمليا أن “حزب الله” لديه حكومة بلا قيمة، ورئاسة مُربكة تُعطي، بين حين وآخر، إشارة إلى إدراكها مدى كلفة “حزب الله” عليها وعلى البلاد، ناهيك بأن رئيس مجلس النواب نبيه برّي، كان في الخامس والعشرين من مايو الماضي قد وجّه، من موقع الحليف، رسالة تحذير قاسية إلى “حزب الله” من خلال إعلانه أن “النصر العظيم الذي تحقّق يمكن أن تذهب به لقمة العيش، وإمبراطورية كالاتحاد السوفياتي، أتى بها رغيف وذهب بها رغيف”.
وهكذا تحوّلت السلطة الحالية بكل مفاتيحها إلى عامل ضعف لدى “حزب الله”. والسؤال الذي يطرح نفسه حاليا: كيف سيرد “حزب الله”؟
البعض يدعو إلى انتظار ما بعد السابع من أغسطس المقبل، الموعد الذي حدّدته الغرفة الأولى في المحكمة الخاصة بلبنان لإصدار حكمها بحق أربعة عناصر من “حزب الله” شاركوا في تنفيذ جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
يعتقد هؤلاء بأن “حزب الله”، في حال جرّم الحكم هؤلاء المتهمين، سيضمه إلى لائحة المواجهة.
البعض الآخر، يعتبر أن رد الحزب، مهما كانت طبيعته، لن يكون أكثر من “حفر في الهاوية”، لأن اللبنانيين الذين يذوقون الأمرّين، ويُخشى عليهم من الموت قلقا قبل الموت جوعا، سئموا من أن يكونوا ضحايا على مذبح “الحرس الثوري الإيراني”.
إن “حزب الله” الذي نام مرتاحا إلى فرضه “قانون الصمت” على اللبنانيين ومنعهم من التعبير عن اقتناعهم بأن الأدوار التي يتم استخدام سلاحه فيها تتناقض مع واقع لبنان ومصالح شعبه، استيقظ وقد وجد أن هذا القانون قد جرى تمزيقه.