كوكب وثلاثة حيتان في لوحات تشكيلية* ميموزا العراوي

النشرة الدولية –

في الأزمات التي تتعرض لها البشرية سواء الحروب أو الكوارث أو الهجرات أو غيرها، يرافق الفن والإبداع الإنسان في رحلته ويكشفان له الطريق ويحميانه من النكوص والعدم. الفن ليس ترفا جماليا ولا هو بوجه واحد، إنه وجوه متعددة لا حصر لها، ولكن جوهرها واحد، هو الإنسان والإنسانية، فلأجل الإنسان ولدت الفنون وله تبذل نفسها. وما شهدناه من أحداث أخيرة متعلقة بتبعات وباء كورونا أو مواقف العنصرية وتفاعل الفن معها، أبرز دليل على ذلك. فمهما اشتد الخناق على الإبداع والمبدعين ومهما تشيّأ العالم والحياة البشرية، فإن الفن يقف دائما في ضفة أخرى، ضد كل ما من شأنه أن يمس بالجوهر الإنساني، ولو كان الإنسان ذاته.

ورد خبر خلال فترة انتشار وباء كوفيد – 19 في الولايات الأميركية أن السلطات المكسيكية شددت المراقبة على حدودها مع الولايات الأميركية وطلبت منها منع الفارين من انتشار الوباء الدخول إلى أراضيها.

والمفارقة هنا تكمن في أن الولايات المتحدة أتحفت العالم قبل ذلك بكثير، بنصبها جدارا أمام المكسيكيين الهاربين إليها من الفقر.

منذ أكثر من شهر ذكرت عدد من المصادر الإعلامية أن الكاتب والمخرج السينمائي الإسباني دايفد رودريغيز تروبا كتب سيناريو خياليا عن أوروبا المنكوبة ما بعد اجتياح كوفيد – 19 سلط فيه الضوء على أزمات بدأت قبل انتشار الفايروس بكثير. الفايروس الذي بات اليوم، وبحد ذاته، عنوانا لحقبة تاريخية شهدت وستشهد تبدلات جذرية في كل دول العالم وعلاقتها مع بعضها البعض.

من تلك الأزمات نذكر اللجوء والهجرة الشرعية وغير الشرعية ونصب الحدود أمام المهاجرين العرب والأفارقة ولاسيما الجزائريين.

تخيّل الكاتب تفشي الوباء بشكل خطير في الدول الأوروبية إلى درجة أن المواطنين توجهوا جماعات نحو دول أخرى، أثبت أنها الأقل إصابة بالفايروس، رغم أنها الأقل التزاما بقوانين التباعد الاجتماعي.

وينتقل كاتب السيناريو إلى سرد انقلاب الأدوار بالتفصيل. فالدول الواقعة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط باتت هي التي تقف في وجه مرور الأوروبيين نحو أراضيها برا وبحرا، وذلك من خلال الحواجز المرفوعة وجدران العزل والبنادق المصوبة إلى قوارب الهجرة وإلى كل من حاول الوصول إلى شواطئها والدخول إلى أراضيها الخالية أو شبه الخالية من الوباء في زمن ستنقرض فيه الحياة البشرية، وفق سيناريو الكاتب الإسباني.

من المتوقع أن يحوّل الكاتب السينمائي هذا السيناريو إلى فيلم. ويمكننا القول إنه مرشح لإلقاء الضوء ليس فقط على انقلاب الأدوار والمعاني الإنسانية المنبثقة منه، ولكنه أيضا

مُرشح لأن يفضح كذبة كبيرة متجسدة في هذا القول “العالم قرية صغيرة” من خلال الإضاءة على التناقض القائم ما بين شعار العالم قرية صغيرة وشعار “لن يمروا”، في إشارة إلى منع المهاجرين البؤساء، الذين فرضت عليهم حياتهم المأساوية والتي هي في جزء كبير منها نتيجة لجشع الدول العظمى، من اللجوء إلى هذه البلدان.

الاختلاف في المواجهة

رسالة هامدة داخل زجاجة النجاة (لوحة للفنان محمد خياطة)

كما في كل ظاهرة أو أزمة أو تفصيل حياتي يحضر الفن التشكيلي ليقدم عبر فنانيه من كل العالم آفاقا مفتوحة تحرك الخيال وتشير إلى مواقع الجراح وأسبابها ونتائجها.

وبالطبع، يختلف المستوى الفني باختلاف الأعمال الفنية وقدرتها على عكس الواقع والذهاب به إلى أبعد مما هو عليه.

من هذه الأعمال ما ظهر خلال مرحلة تفشي الوباء وقوانين الحجر الصحي لفنانين عرب وأجانب، ومنها، وهو ربما الأهم، ما ظهر قبل أزمة الوباء بكثير وعبر عن التمزقات في النسيج الإنساني وتفشي الكذب المُعقلن وتعاظم الرياء السياسي المتمثل في قبول الاختلاف والانفتاح على الآخر بشكل صوري.

هذه الأعمال الفنية هي التي من جانب تعبيرها عن أزمات آنية مرتبطة ارتباطا وثيقا بظروفها كانت صدى استباقيا، إذا صح التعبير، لانتشار الوباء العالمي الفاضح بشكل كامل وعلى مختلف المستويات ما أصاب العالم المعاصر من آفات، وازداوجية خطيرة للمعايير.

إنه جسد العالم يستعرض تمزقاته أمام ساكنيه وخاصة أمام من يملك منهم سلطة عليه من خلال المال والتقدم التكنولوجي.

جسد سبق أن سجّاه فنانون كثر من العرب، ولاسيما من الشرق الأوسط المنكوب منذ نشوء الكيان الإسرائيلي. منهم من جاءت أعمالهم لتكشف انعدام العدل وطغيان الخبث عبر إشارتهم، وبطريقة غير مباشرة، بأنه شتان ما بين الجدران العنصرية والحدود الحامية لغنى الهويات واختلافها.

هناك تناقض قائم ما بين شعار العالم قرية صغيرة وشعار “لن يمروا”، في إشارة إلى منع المهاجرين البؤساء من مغادرة بلدانهم

وفي هذا السياق أثبتت أزمة كورونا أنه بالرغم من كون الوباء عالميا وله دلائل وجود واحدة وسبل مُعالجة واحدة ما زالت إلى اليوم غير واضحة، فإن الحكومات اختلفت في قوانين مواجهتها وعلاجها مع الاستفادة من تجارب الحكومات الأخرى في التعامل مع الوباء.

وفي حين لعب دور إيقاف الرحلات من بلدان إلى أخرى بهدف العزل الصحي لكل بلد عن سائر البلدان،

استمر التواصل والتشارك من خلال “الاختلاف”؛ الاختلاف في المواجهة والاختلاف في الرؤية. وفي ذلك دليل قاطع على أن الاختلاف ومنطق “البلد الآخر” هو حاجة مُلحة لن يستطيع البشر التخلي عنها رغم المساعي المستميتة “لقتل الأخر” تحت شعار “العالم قرية واحدة”.

هذا العالم الحامل لشعار الانفتاح على الآخر في ظل العولمة الماحقة للهويات الخاصة بالدول الأقل قوة، يمارس أقسى أنواع العزل بعدم استقبال، وبرحابة النية الصافية، الآخر المخدوع الذي يريد أن يعيش تجربة “المواطن العالمي” التي تتبجح بها الدول العظمى.

ضد الرياء

نذكر على سبيل المثال وليس الحصر ثلاثة أعمال فنية شديدة الاختلاف ظاهريا ومتصلة ببعضها البعض عضويا لثلاثة فنانين شديدي الاختلاف ينتمون إلى منطقتنا العربية. يمكن اعتبار لوحاتهم، وكما ذكرنا آنفا، استشرافا وصدى استباقيا لانتشار الوباء العالمي الفاضح لازدواجية معايير الانفتاح على الآخر.

هؤلاء هم: الفنانة التشكيلية السورية عزة أبوربيعة ولوحتها الرائعة التي يطغى عليها اللون الأزرق وبطلها حوت رمادي يميل إلى الزرقة، والفنان السوري الجنسية محمد خياطة من خلال مجمل لوحاته “الزرقاء” ولوحته التي يرسم فيه مخلوقه الرقيق وهو حامل لمرطبان يمكث بداخله شخص مغطى بماء البحر إلا رأسه. أما الفنان الثالث فهو اللبناني غازي باكر ولوحته البحرية التي تحمل اسم “يونس”.

في حالة الفنانة عزة أبوربيعة الحوت هو الحكواتي الذي أوكلت إليه مهمة سرد صفحات من تجربتها في وطنها المأزوم ومن ضمنها تجربة الأسر التي عانت فصولها هي والعديد من النساء في سجون النظام السوري، لكنه، أي الحوت، هو المُنتشر في جميع أعمالها كرمز سحري للخلاص وللأسر على السواء وإن لم يكن حاضرا بكتلته الزرقاء.

وتسرد الفنانة قصة هذه اللوحة قائلة إنها “تجسد حلما راودها”. فبينما كانت هي وصديقاتها ينتظرن إخلاء السبيل حلمت بحوت كبير يزورهنّ في مهجعهن، ويحملهنّ على ظهره إلى الحرية.

وبرز هذا الحوت “الكوني” قادرا بالرغم من غثيانه المُتمظهر بشفافية جلده الذي غرزت فيه الفنانة أرجل أسرّة السجن التي استلقت عليه هي والعديد من السجينات أن ينتشلها هي وقصتها الفردية/ الجماعية إلى شكل حياة جديدة في بقاع أرض جديدة نصبت جدرانها العازلة بوجهها.

يمكننا اعتبار لوحات الفنانين الثلاثة استشرافا وصدى استباقيا لانتشار الوباء العالمي الفاضح لازدواجية معايير الانفتاح على الآخر

وقد كتبت الفنانة عن لوحتها تلك وسائر أعمالها التي قدمتها في صالة بيروتية “لا أريد للجيل الذي يليني أن يطفو بلا ذاكرة، كتبت على حائط مرسمي الحالي في بيروت: إن لم أرسم فلا معنى لوجودي، سأسجل ما عشته، وأترك هذا الأثر في أعمال الحفر.. في مرسم ليس بمرسمي وفي شقة ليست بشقتي”، كلام يعيد اختراع منطق العالم الواحد من نافذة إنسانية حقيقية.

أما الفنان محمد خياطة فـ”حوته” المُنقذ والآخذ به بعيدا عن أهوال الحرب فيجيء في لوحة رائعة له على شكل مرطبان فيه رأسان يقبعان في ماء هما مصنوعان منه. ويذكرنا هذا العمل بالرسالة الهامدة داخل زجاجة النجاة بعد أن رماها البحار الذي قذفته الأمواج إلى شاطئ جزيرة منسية في البحر.

كائن مرطبان محمد خياطة هو”يونس” من نوع آخر يختبئ من هول العالم وتآمره عليه. يومها قدم الفنان معرضه بهذه الكلمات المؤثرة والبسيطة بساطة وعمق عالمه الفني “عن أخي الذي ملأ قاربا بجسده، ومضى بعيدا باحثا عن أمل جديد وسط الحيتان”.

بدوره قدم الفنان غازي باكر لوحة يطغى عليها اللون الأزرق يظهر فيها كائن مُختبئ من جنون عالم استهلاكي لا يقيم وزنا إلا لسلطة المال الفائضة. كائن في ظلمات حوت يطل بخوف لا يخلو من الطرافة على بحر العالم “الواحد”.

لو كان بإمكاننا أن نهيّئ معرضا يتناول هذا الجانب الكاشف لحقيقة الرياء البشري في ظل انتشار وباء كورونا عالميا لكنا أقمناه ضاما الأعمال المذكورة آنفا وغيرها الكثير. وكنا وضعنا له هذا العنوان الذي يليق به “أزرق كورونا”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى