نهاية الأتاتوركية* مصطفى الفقي

النشرة الدولية –

زرت تركيا عدة مرات خصوصاً مدينتي إسطنبول العاصمة التاريخية، وأنقرة العاصمة السياسية، ولأنني مهتم بأحوال الدولة العثمانية مدركاً حجم الفظائع التي ارتكبتها، والجرائم التي تورطت فيها عبر ما يزيد على خمسة قرون من السيطرة على مناطق الشرق الأوسط، والبلقان، وشرق أوروبا، وغرب آسيا مع امتدادات وصلت إلى حدود الصين، وأخرى إلى شواطئ البحر الأسود مع التوغل في عدد من الجمهوريات التي كانت فيما بعد جزءاً من روسيا السوفياتية، ولأنني قرأت موسوعة عبد العزيز الشناوي الذي يعتبر عمدة دراسات الدولة العثمانية، وأدركت في نهاية المطاف أن تلك الدولة التي ارتدت جلباب الإسلام، ووضعت عمامته فوق رأسها قد خدعت الدنيا كلها باسم العقيدة، وتجاوزت الحدود بالعدوان على الحريات وقهر الشعوب، فالاستعمار التركي كان دائماً جزءاً من منظومة الهوان التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية، والشعوب التي خضعت لدولة الخلافة حتى سقطت في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وظهرت الجمهوية التركية بقيادة الغازي مصطفى كمال أتاتورك الذي كان نافراً بطبيعته من التأثيرات العربية على الدولة العثمانية، فاستبعد الأبجدية المستخدمة، ورفع شعارات العلمانية المطلقة، وفصل الدين عن السياسة بعد قرون طويلة من الاستخدام المشترك لهما، والتداخل الكبير بينهما، وظلت مبادئ أتاتورك قوية مؤثرة في الجمهورية التركية حتى بدايات القرن الحالي، بل إن وصول رئيس وزراء من التيار الإسلامي هو “نجم الدين أربكان” لم يتمكن من مقاومة الأتاتوركية.

وما زلت أتذكر أن ضابطاً مصرياً كبيراً كان ضيفاً على نظيره التركي بينما كان نجم الدين أربكان هو رئيس الوزراء، وعندما تحدد موعد للضيف المصري ليستقبله رئيس الحكومة الممثل للتيار الإسلامي، حضر اللقاء الضابط التركي المضيف، وكان هو سيد الجلسة تقريباً، أما رئيس الوزراء فقد كان شكلاً بلا مضمون، وذلك يعكس قوة التيار العلماني حينذاك وقدرته في السيطرة الكاملة على البلاد، لأن الجيش التركي كان هو حارس مبادئ أبي الأتراك مصطفى كمال، وكثيراً ما سمعنا عن أن السلطات التركية قد عصفت بكل من انتقد، ولو من بعيد، أي تصرف لمؤسس الجمهورية التركية، وإطاحة كل من يعلق سلباً على مبادئه، ووصول محافظ إسطنبول رجب طيب أردوغان إلى رئاسة الحكومة باسم حزب الحرية والتنمية، بينما كان عبد الله غول رئيساً للجمهورية بعد عودته من رئاسة أحد البنوك الدولية في السعودية، لذلك سطع نجم أردوغان، وتضخمت شعبيته في البداية، إذ اقترن عهده بارتفاع مستوى المعيشة للمواطن التركي رغم أن الفضل لا يرجع إلى أردوغان، ولكن يرجع بالدرجة الأولى إلى سابقيه ومن أبرزهم “تورغوت أوزال” الذي تنسب إليه المعجزة الاقتصادية التركية، ولم نكن نعلم، حتى المتخصصين منا، أن أردوغان يخفي تحت عباءة السلطنة، تاريخياً، أحلاماً جديدة في دولة توسعية عدوانية لديها شهية الانتشار، وتعيش في أحلام الماضي خصوصاً أنه كان ولا يزال قيادة دولية نشطة في انتمائها لجماعة الإخوان المسلمين مصرية الأصل عالمية الانتشار.

ولقد نبهني شخصياً صديق جزائري إلى هذه المعلومة عام 2007، وكنا نأخذ هذه الأمور بطرافة دون وعي كامل بما يضعه أردوغان في جعبته، خصوصاً أنه كان يسعى إلى عضوية الاتحاد الأوروبي حتى يقطع على اليونان، والقبارصة ميزة الانفراد بعضوية ذلك الاتحاد؛ بل حاول أن يوائم بين الأوضاع في بلاده، وبين المقاييس الأوروبية لعضوية الاتحاد، فألغى عقوبة الإعدام وهو قرار أنقذ حياة زعيم الأكراد عبد الله أوجلان المسجون حالياً في إحدى الجزر التركية، وقد تصرف أردوغان في العقدين الأخيرين تصرفات ملفتة تنم عن الأطماع الخفية في تكوينه السياسي، لقد زار مرة هو وزوجته دولة الصومال وقضى فيها ليال ثلاث في ظل الاقتتال الداخلي، والفوضى العارمة في تلك الدولة الأفريقية المسلمة، العضو في جامعة الدول العربية.

وقد قرأنا الخبر يومها مؤكدين أن وراءه أهدافاً سياسية بعيدة، وليست مجرد زيارة عادية بلا تخطيط مسبق، لقد كان يريد أن يتذكر الجميع أن الخلافة الإسلامية تستيقظ، وأن السلطان العثماني رجب طيب أردوغان يتجول في الدول الإسلامية، بل وفي أفقرها لكي يبعث برسالة تؤكد العودة إلى عصر الأجداد، ومع تطور الأمور وتتابع الأحداث بدأ رجب طيب أردوغان يكشف عن وجهه الحقيقي فقضى تقريباً على حلم تركيا في الانضمام للاتحاد الأوروبي، بل وزاد على ذلك تعزيز علاقته الاستراتيجية بالدولة العبرية مع إحلال شعار تركيا في مقدمة الشرق الأوسط بدلاً من أن تكون في مؤخرة أوروبا، وتكاثر حوله الأعوان، وبلغ الأمر ذروته عندما وصل الإخوان المسلمون إلى سدة الحكم في مصر، عندئذ تجسدت أحلامه، وظن أنه أصبح قريباً من استعادة الإرث العثماني، وقيادة العالمين العربي والإسلامي باسم الدين مرة أخرى، وظل يناطح الأوضاع في مصر صباح مساء بتكثيف إعلامي ممنهج مستخدماً عناصر داعش الإرهابية التي دعمها منذ البداية لكي تكون أداة له في سوريا، وفي العراق، وفي مواجهة الكرد الأتراك عند اللزوم ثم نقل المعركة إلى الدولة الليبية بثرواتها الواسعة من نفط وغاز، وساحلها الطويل الممتد على البحر الأبيض المتوسط فضلاً عن تنوع أقاليمها السياسية، ومازال يحاول استفزاز مصر بل ودول الجوار جميعاً بتدخله السافر غير المبرر في تلك الدولة التي عانت كثيراً في العقود الأخيرة، ثم فاجأ الجميع بتصرف غير مدروس بأن أحال كنيسة آيا صوفيا التي جعلها أتاتورك متحفاً منذ عام 1935 إلى مسجد مرة أخرى في غزل للقوى الإسلامية والتيارات الدينية في المنطقة، وهو يعبر بذلك عن غرامه الشديد في استخدام الدين أداة عند اللزوم، وهو لا يتورع عن اللعب بكل الكروت رغم أنه يرأس إحدى دول حلف الأطلنطي، ويحظى بتأييد غربي عام باستثناء دول قليلة في أوروبا في مقدمتها فرنسا، واليونان، وقبرص.

وهاهو يدق طبول الحرب حول محور سرت الجفرة الذي أعلنه الرئيس المصري خطاً أحمر يؤدي عبوره إلى اشتعال المنطقة، وكأن أردوغان جاء من بلاده لكي يوقظ الفتنة ويشعل النار على أرض ليبيا العربية الإفريقية، فالرجل الذي قضى على مبادئ أتاتورك، ولبس رداء العثمانيين لا يتورع عن القيام بأي تصرف غير محسوب مادام في ذلك ما يرضي زعامته ويحقق طموحاته، ورغم الاستنكار الدولي الشامل لسياساته إلا أن أحداً لم يوقف تحركاته بدءاً من الولايات المتحدة الأميركية، وروسيا الاتحادية وصولاً إلى دول أخرى مثل إيران التي ترقب تصرفات أردوغان باعتباره حليفاً في المستقبل يشاركها الأطماع في الأرض العربية، والثروات التي تملكها، إننا بصدد مرحلة مفصلية من تاريخ الشرق الأوسط، وشعوب البحر المتوسط، فأردوغان يلهث وراء اكتشافات الغاز في شرق البحر، ويريد أن يحوز الثروة والسلطة في المنطقة كلها مستعيداً أحلام السلطنة وأوهام الخلافة العثمانية، إنني أظن وليس كل الظن إثماً أن أردوغان قد أصبح أداة في يد التيارات المتطرفة يستخدمها وتستخدمه، وهو ينقل المعركة من خلال جسر جوي نقل به عشرات الألوف من الإرهابيين والمرتزقة وكأنه يحيي تنظيم داعش الذي كنا نظن أنه قد أشرف على الزوال، إن تركيا اليوم تودع مبادئ ابن إقليم سالونيك مصطفى كمال أتاتورك لكي تخضع لسياسات رجب طيب أردوغان بكل ما تحمله من مخاطر على الدولة التركية قبل غيرها، ونحن هنا في الوطن العربي نستشعر أجواء الخطر القادم إلينا من إيران، وتركيا، وبعض دول الجوار في مناطق أخرى، ولا نملك إلا التمسك بوحدتنا، وممارسة إرادتنا، والإصرار على هويتنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى