هل يستطيع لبنان تحقيق مبدأ الحياد؟* سوسن مهنا

النشرة الدولية –

أثارت دعوة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي إلى “العمل على إقرار نظام الحياد كبابِ خلاصٍ للبنان من عزلته المشرقية والغربية”، زوابعَ سياسيةً لم تهدأ فصولها بعد. أتت هذه الدعوة لتهزّ أركان “الستاتيكو السياسي” المسيطر منذ فترة طويلة، في حين جاءت مناشدته رئيس الجمهورية ميشال عون “التدخّل لرفع الحصار عن الشرعية والقرار الوطني الحر وتطبيق القرارات الدولية، وعدم إقحامه في الصراعات الإقليمية وإلحاقه بركب المحاور”، لتفتح الباب أمام إعادة خلط الأوراق السياسية في الداخل، وكدعوة أعلن عنها أنها ستكون بمثابة “لقاء حوار جامع لا يستثني أحداً”.

يأتي الطرح في توقيت حساس، مذكراً بهوية وفكرة لبنان منذ عهد الاستقلال عام 1943، ما فتح الباب على مصراعيه للنقاش حول الأسس التي نشأ عليها النظام اللبناني. ومن هنا، جاءت المواقف إما مرحبة وملاقية للراعي، وإما منددة منتقدة وحتى “مخونّة” لتوقيت الطرح وخلفياته.

ويعرّف الحياد الدولي على أنه التزام تقطعه الدولة على نفسها بعدم التدخل في الشؤون الدولية، إذا كان هذا التدخل يفضي إلى استخدام القوة المسلحة. ويهدف الحياد إلى الحفاظ على مركز قانوني محدد يفرضه القانون الدولي للدول التي تمارس هذا الحق، وبذلك تتمتع هذه الدول بمجموعة من الحقوق ويلقى على عاتقها مجموعة من الواجبات ناشئة عن هذا الالتزام، وينتهي هذا الالتزام بانتهاء حالة الحياد.

أين لبنان من هذا المبدأ؟

وضع زعماء استقلال عام 1943، لاسيما الرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح، ميثاقاً وطنياً تعاهدت من خلاله الطوائف اللبنانية على تجربة خيار العيش المشترك في دولة مدنية ديمقراطية مستقلة، وانطلقت من سلبيتين خارجيتين تنصان على تنازل الطوائف الإسلامية عن حلم الوحدة العربية وفك الارتباط مع سوريا، لقاء تنازل الطوائف المسيحية عن الانتداب الفرنسي وفك الارتباط مع فرنسا، على أن يكون لبنان همزة وصل بين الشرق والغرب وأن لا يكون ممراً أو مقراً لأي مؤامرة ضد سوريا.

شكك رئيس تحرير صحيفة “لوريان”، جورج نقاش حينها في هذه الخطوة، وكتب مقاله الشهير بعنوان “سلبيتان لا تصنعان وطناً”. ومن ثم تبنت تسوية العام 1958 شعار “لا غالب ولا مغلوب”، ابتعاداً عن صراع محوري بغداد والقاهرة حينها، الذي لم ينتهِ إلا بتوافق أميركي /ناصري، وبعد دخول قوات المارينز إلى لبنان، حيث تمّ التوافق على قائد الجيش آنذاك فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية.

أما اتفاق “الطائف” عام 1989 والذي أنهى حرباً أهلية دامت 15 عاماً، فتحدث عن لبنان العربي الهوية والانتماء، والمنفتح على كل الثقافات، وهو ملتزم بميثاق جامعة الدول العربية وبعضويته في منظمة الأمم المتحدة.

لماذا طرح الحياد الآن؟

ينقسم اللبنانيون حول فكرة طرح الحياد اليوم. ويرى فريق أن الطرح يأتي كرد فعل على تمادي “حزب الله” بجر البلد وجعله تابعاً لمحور الممانعة أو المحور الإيراني في المنطقة، فتوجب على جهة معينة أن تطرح الفكرة كمدخل لإنقاذ لبنان.

أما الفريق الآخر، فيرى أن الحاجة اليوم إلى ما يجمع ويوحد اللبنانيين، بغية إيجاد مساحة مشتركة للتلاقي، ولا يجوز العمل على إثارة الانقسام الداخلي، وتفكيك قواه التي حمت لبنان، المتمثلة بالشعب والجيش والمقاومة. ولكن ألا يحتاج خوض الحروب في الإقليم من قبل “حزب الله” توافقاً وإجماعاً وطنيين، وهل استأذن “الحزب” شركاءه في البلد للذهاب إلى القتال في سوريا والتدخل في العراق واليمن؟

موقف “حزب الله” الرسمي

“اندبندنت عربية” سألت مسؤول العلاقات الإعلامية في “حزب الله” محمد عفيف، عن رأي أو تعليق “الحزب” من طرح البطريرك، فكان الرد أنه “لا تعليق على الطرح ولا على كلام البطريرك الآن، وحتى رئيس الكتلة البرلمانية محمد رعد لم يعلق على هذا الموضوع”. وكان النائب رعد قد أشار إلى “أنّنا اطّلعنا على الموقف ونتابع ردود الفعل”، وذلك خلال زيارته إلى عين التينة، مقر رئيس مجلس النواب نبيه بري.

هل من الممكن تحقيق الحياد اللبناني بوضع لبنان الجغرافي وحدوده المشتركة مع سوريا من جهة وإسرائيل من جهة أخرى؟ ما هي الموانع والعقبات؟ وهل تحقيق الحياد بحاجة لعقد سياسي اجتماعي جديد؟ وإذا كانت هناك دعوة إلى حوار من قبل البطريرك، فهل سيشارك “حزب الله”.

لبنان ورقة ضغط في الاشتباك الأميركي- الإيراني

يقول وزير الإعلام السابق ملحم رياشي، “لأن حدود لبنان ضاغطة عليه، لا يمكن إلا تحقيق الحياد فيه”. ويشير إلى أن “هناك موانع عدة تتعلق بمصالح خارجة عن إرادة اللبنانيين، لإبقاء لبنان ورقة ضغط في الاشتباك الأميركي-الإيراني الذي يشتد، وسوف يأخذ منحى أكثر خطورة في الأسابيع المقبلة”. ويؤكد وجوب أن يقتنص لبنان الفرصة لإنقاذ نفسه، والابتعاد عن هذا التجاذب الذي قد يؤدي إلى تدميره، “بل تهديد لبنان الكيان والدور والرسالة في وجوده”.

يضيف رياشي أن “الحياد حاجة وطنية وشجاعة قومية للابتعاد عن صراعات وحروب الآخرين وهذا وحده كافٍ للبناء عليه برعاية أممية ومن دون تزلف أو انحيازات مسطحة وسخيفة”. وعن المعارضة الشيعية التي قد تواجه هذه الدعوة، يقول “لا أعتقد، لأن الشيعة في أساس تكوين لبنان ويتعرضون مثلنا للحصار والانهيار نتيجة تورط لبنان في حروب لا تعنيه، بل على العكس معاً نبني وطناً أفضل محايداً وشجاعاً يدافع عن مصالحه كما سويسرا والنمسا وغيرهما”.

ويتابع “نحن نريد الحياد لاستعادة البحبوحة والدور والثقافة والحضارة والرسالة والموقع، نريد الحياد ليعود لبنان إلى موقعه الطبيعي بين الأمم والشعوب، يبحث عن حلول لمشاكلها عِوَض أن يبحث عن مأكل بين القمامة أو عن كهرباء في سراجٍ من الزيت”.

لبنان بلد محايد في الأصل

أستاذ القانون الدولي والعلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدكتور حسن جوني يعتبر أن “الدولة اللبنانية محايدة في الأساس في كل ما له علاقة بالصراعات العربية- العربية، والنزاعات السياسية داخل كل قطر عربي، وأي دولة عربية تتعرض لحروب أهلية، فموقف لبنان موقف حيادي، حتى في الصراع في المنطقة بين إيران والسعودية وبعض دول الخليج، أو الصراعات داخل الجامعة العربية. وفي الحرب السورية، نأى لبنان الرسمي بنفسه عن التدخل، لكن في ما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي أو الفلسطيني الإسرائيلي، فهو غير محايد، حيث تعتبر إسرائيل دولة عدوة”.

ويرى أن هوية لبنان واضحة في الدستور اللبناني، فهو بلد عربي ووطن مستقل ذات سيادة، لكن موقعه حساس جداً كمدخل في الشرق، وفي الصراع بين الشرق والغرب، وهو مرتبط بقضايا المنطقة، فهو عضو في الجامعة العربية، ومجلس الدفاع المشترك العربي، في حين يشكل وجود اللاجئين الفلسطينيين على الأراضي اللبنانية أزمة كبيرة ديمغرافية.

وعن موقف “حزب الله” من الحياد، يقول جوني إن “مواقف بعض الأحزاب في لبنان كحزب الله وحزب الكتائب، لا تعبر عن مواقف الحكومة اللبنانية”، مشيراً إلى أن “هناك فريقاً كبيراً من اللبنانيين له علاقة بالسعودية وفريقاً آخر له علاقات قوية جداً مع إيران، وهذا الصراع التاريخي يترجم على الأراضي اللبنانية”. يضيف “عام 1958 كان الخلاف إما أن يكون لبنان مع حلف بغداد أي الغرب أو ضده، وانتهى بتسوية لا غالب ولا مغلوب، وفي الحرب الأهلية الأخيرة كان السؤال المطروح هل سيكون لبنان من أمن سوريا أو من أمن إسرائيل، وجاء اتفاق الطائف الذي وضع لبنان ضمن أمن سوريا، وانتهت الأمور بخروج سوريا وبإعادة التوازن نوعاً ما بين فريقين في المنطقة”.

أما لماذا لم يعلق “حزب الله” على الطرح، يعتبر جوني أن الطرح قديم وسوف يغير في خريطة لبنان الديمغرافية، ولأن الطرح غير جدي، ذلك أن لبنان الرسمي محايد في الصراعات الإقليمية.

وعن تدخل الحزب في النزاعات في المنطقة، بخاصة سوريا، يقول إن “حزب الله يحاول دائماً أن يبتعد عن النزاعات في المنطقة، وهو يركز جهوده في محاربة الإرهاب وإبعاده عن الحدود”.

وعن الموانع والعقبات التي تحول دون تطبيق الحياد، يعتبر أن “الحياد وحده لا معنى له لأنه بحاجة لمن يدافع عنه، وهذا ما حصل في قبرص. إذ كان هناك تعهد بحماية الجزيرة، لكن تركيا قسمت الجزيرة إلى قبرص تركية وأخرى يونانية. وعلى الرغم من وجود الأسطولين الإنجليزي والأميركي، لم يستطيعا حماية قبرص من التقسيم التركي. وفي حال العدوان على لبنان، سيكون عدم التوازن العسكري بين الجيش اللبناني والقوى العسكرية الإسرائيلية واضحاً، فمن سيدافع عن البلد؟”.

هل البلد بحاجة لعقد اجتماعي جديد؟ يرى جوني أن “أي عقد اجتماعي جديد سيهدد وحدة لبنان والعلاقات بين مكونات الشعب اللبناني، فالعقد الاجتماعي عام 1943 مر على أساس أن لا يكون لبنان ممراً ولا مقراً، وهاتان السلبيتان تحولتا عبر اتفاق الطائف إلى إيجابيتين، حيث أكد أن لبنان بلد عربي بعدما كان ذات هوية عربية، وأصبح وطناً نهائياً”.

نقلاً عن “اندبندنت عربية”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى