ماذا يريد الحزب الأتاتوركي!* رستم محمود

النشرة الدولية –

منذ أن وصل حزب العدالة والتنمية لسُدة الحُكم في تركيا عام 2002، ثمة ما يشبه المتتالية الذهنية في الحياة السياسية التركية، تقول: ليس لأحد أن يُنهي سلطة حزب العدالة والتنمية وزعامة رجب طيب إردوغان إلا حزب الشعب الجمهوري، وهذا الأخير لن يتمكن فعل ذلك إلا بتحالف سياسي صعب مع الكثير من القوى السياسية “التركية” الأخرى، وأن ذلك لن يحدث دون أن يتجرأ حزب الشعب الجمهوري من تغيير الكثير من سياساته وخياراته ونزعاته الأيديولوجية…إلخ.

في مؤتمره السابع والثلاثين، الذي عُقد قبل أيام قليلة، قدم حزب المعارضة التركية الرئيسي، حزب الشعب الجمهوري “CHP”، ثلاثة عشر بندا سياسيا، اعتبرها رؤيته السياسية المستقبلية، وبرنامجا تنفيذيا لتحقيق نصر انتخابي استثنائي على حزب العدالة والتنمية وزعامة الرئيس رجب طيب إردوغان، خلال الانتخابات التي ستجري عام 2023، وإن كانت المؤشرات تدل على إمكانية إجراءها قبل موعدها الاعتيادي، بعام واحد على الأقل.

في كل تفصيل من الحياة السياسية التركية، ثمة نقاش مقارن ضخم للغاية، بين ركائز الأحوال السياسية العامة في البلاد، وبين البرنامج السياسي والتنفيذي الذي يمشي عليه حزب المعارضة الرئيسي هذا. فبناء على تلك المقارنة، يمكن تحديد أفق وإمكانية انتزاع هذا الحزب للسلطة في تركيا عما قريب، من عدمه. وهي نتيجة ستوضح الكثير من ملامح الحياة السياسية التركية، وبالتالي في عموم المنطقة. فأي تغيير جوهري في الحياة السياسية التركية يبدو أقرب للمستحيل، ما لم يجترح هذا الحزب تغييرا جوهريا في ذاته.

يتأتى الثابت الأساسي الأول لهذا الحزب من كونه “حزب الدولة” التركية، عقائديا وجهازيا، بالذات عبر شبكات الدولة العميقة. فهو حزب مؤسس الدولة التركية الحديثة، مصطفى كمال أتاتورك. ومن هذا المؤسس نهل الحزب نهجه وفلسفته ونزعاته السياسية، التي جمعت قومية عرقية شديدة الصلابة، مع علمانية يعقوبية تماثل القومية العرقية في جمودها وثقتها بنفسها. ومن ذلك الأب المؤسس أيضا، هيمن الحزب على الكثير من المؤسسات العميقة داخل هذه الدولة، وعلى رأسها الجيش.

بهذا المعنى، فإن هذا الحزب لا يقدم للقواعد الاجتماعية التركية ما هو أكثر إغراء من الإردوغانية السياسية والأيديولوجية، التي تتمادى في تقليد الآليات التقليدية للأتاتوركية، وإن بإحلال الإسلام الإخواني مكان العلمانية الأتاتوركية.

يستمد الحزب هذا التمسك بالزعيم/الأب من إرث موغل في القدم في فلسفته وتجربته، متمركز حول رؤية تقول بأن ثمة من هم مؤتمنون على خبايا وأذرع وتحالفات الحزب غير المعلنة

النقاط الثلاثة عشر التي عرضها الحزب، وخلا إشارة البند الثاني الخجولة إلى ضرورة “حل المشكلة الكردية”، فإنها لم تتضمن أي شيء تجاه تفكيك العقائد الأيديولوجية الصلبة لهذا الحزب، الذي تماهت مع هوية الدولة التركية طوال قرن كامل، بمواثيقها ومؤسساتها وعقيدتها التربوية والقضائية، وأولا بجيشها.

ليكون حزب الشعب الجمهوري الأتاتوركي مختلفا عن الأردوغانية التي يعارضها، يجب أن يكون أكثر حداثة ومدنية وجاذبية للطبقات الاجتماعية التركية الأوسع انتشارا، المدنية ثقافيا والوسطى اقتصاديا والأعلى تعليميا، عليه أن ينزع نحو تفكك تلك الأسوار الأيديولوجية والعرقية عن نفسه، وبالتالي عن أية سلطة ونظام سياسي تركي مستقبلي، قد تكون تحت سيطرته. تركيا التي لم تكن طوال قرن كامل مضى دولة ذات نزعة أيديولوجية، بل كانت أقرب ما تكون لكتلة من العقائد العرقية والقومية، تملك هذه العقائد دولة كاملة، بمؤسساتها ومواثيقها وجيشها، وحتى مواطنيها.

في مؤتمره السابع والثلاثين هذا، أعاد الحزب انتخاب زعيمه السبعيني كمال كليجدار أوغلو لرئاسة الحزب من جديد، بغالبية مطلقة، وكمرشح وحيد للرئاسة، وهو الذي يتبوأ أساسا هذا المنصب من أكثر من عشرة سنوات.

بهذا الخيار، يكون الحزب الأتاتوركي قد أعاد تكريس نموذج الأب/الزعيم، وهي الأساس السياسي الآخر الذي يطابقه مع الإردوغانية وإسلامها السياسي، الأبوي المركزي.

فخلال قرن كامل، تربع خمسة زعماء فحسب على زعامة هذا الحزب، خلا بعض الأوقات القصيرة التي أتاحت الفرصة لبعض الحزبيين البيروقراطيين رئاسة الحزب. فأتاتورك نفسه بقي زعيما للحزب طوال حياته، خلفه رفيق دربه عصمت إينونو في الزعامة لأربعة وثلاثين عاما! ومن ثم الزعيمين بولنت أجاويد ودنيز بايكال، حيث انتهت رئاسة الأول بالوفاة والثاني

 

لم يتجاوز الحزب الأتاتوركي هذا المعضلة الجيلية/الزعامتية، في وقت تظهر فيه قيادات شابة تركية شديدة التأثير على القوى والرأسمال الاجتماعي التركي الشبابي، من مؤسس حزب الديمقراطية والتقدم الجديد علي بابا جان، مرورا برئيس حزب الشعوب الديمقراطية “الكردي” صلاح الدين دميرتاش، وليس انتهاء برئيس بلدية اسطنبول والقيادي في الحزب الأتاتوركي نفسه، أكرم إمام أوغلو.

يستمد الحزب هذا التمسك بالزعيم/الأب من إرث موغل في القدم في فلسفته وتجربته، متمركز حول رؤية تقول بأن ثمة من هم مؤتمنون على خبايا وأذرع وتحالفات الحزب غير المعلنة، تلك الخبايا التي تؤمن مصادر قوة وسطوة للحزب، غير معلنة بأسوار التحالف مع الدولة العميقة والأجهزة المستترة ضمنها. ما يزال هذا الحزب يعتقد بأن تفكيك تلك الأبوية لصالح رؤساء أصغر سنا وأكثر حداثة وشفافية، إنما تؤدي موضوعيا إلى تفكيك وفضح تلك التوجهات والتحالفات والأجهزة المضمرة للحزب.

هذا الحزب مُلبس بنزعة شبيهة بتوارث “السر الصوفي” بين شيوخ الطُرق الصوفية وأبنائهم المؤتمنين، جيلا بعد آخر، وخشيتهم الدائمة من كشف وهتك ذلك المُضمر أمام وريث ما، فيما لو يكن مُعتدا بما هو مُتناقل بين الخلفاء.

يشكل ذلك تحديا جوهريا للحزب الأتاتوركي، وهو أمر يطال جوهر وآلية تنظيمه الرئيسية: أما أن يكون تنظيما مدنيا، متماشيا مع روح العصر، أكثر شبابا وأقل أبوية وتكورا حول الذات، وبذا يتمكن من جذب ملايين الشبان الأتراك، من الحياديين في الصراع بين هذا الحزب والإردوغانية السياسية، الأفضل تعليما ومدنية، أو يستمر بما كان عليه منذ قرن كامل. أو أن يبقى ذلك التنظيم الملتف حول ذاته، الشبيه بالجيش المدني والواجهة السياسية للنواة الصلبة للدولة العميقة، التي تفرض نفسها أباً أعلى لأمة مواطني تُركيا.

في نفس المؤتمر أيضا، لم يحسم الحزب خياره من الصراع الاقتصادي/السياسي، الذي كان تأسيسيا بداخله. فخلا بعض العبارات التجميلية عن ترشيد الموارد والمأسسة المطلوبة والقضاء على الفساد، لم يجاوب المؤتمر على السؤال الرئيسي المطروح في تركيا بإلحاح استثنائي: هل ثمة أية آلية أو سياسة اقتصادية يمكن لها أن تنقذ الطبقات الفقيرة والوسطى التركية من تدهور أحوالها وانهيار أدوات ومستويات معيشتها؟ وإن كان ثمة شيء ما من ذلك، هل يمكن لهذا الحزب أن يتنازل عن مصالح وأهداف نخبته العليا وشبكة شراكاتهم من رؤوس الأموال الكبرى، فيما لو كان ثمة تناقض جوهري بين الطرفين!

كانت العقيدة الأتاتوركية لهذا الحزب تؤمن في عقودها التأسيسية بأن مركزية الدولة سياسيا وعقائديا تفرض مركزية اقتصادية، وبالتالي خليطا من الاشتراكية والاقتصاد الحُر. لكن ظرف الصراع مع يمين الوسط في خمسينيات القرن المنصرم، حينما صعد رئيس الوزراء عدنان مندريس كزعيم يميني للحزب الديمقراطي، رأسمالي الهوى والهوية، وما تلالها الحرب الأهلية بين الشيوعيين واليمنيين، في عقدي الستينيات والسبعينيات، أجبرت زعيمي الحزب الأتاتوركي عصمت أينونو وبولنت أجاويد على النزوع يساريا قد المستطاع طوال تلك العقود، لانتزاع ولاء الطبقات الوسطى والمهمشة قدر المستطاع، حيث كانت الأحزاب اليسارية “المتطرفة” ونظيرتها اليمينة الفاشية، تستميت في سبيل نزعها من يد حزب الدولة هذا.

لم يحسم الحزب خياره من الصراع الاقتصادي/السياسي، الذي كان تأسيسيا بداخله

تماهت زعامة دنيز بايكال للحزب مع سقوط الاتحاد السوفياتي والتجارب الاشتراكية، وبذا صار الحزب الأتاتوركي مع زعامته حزبا متحالفا مع قوى اقتصاد السوق الحُر، داخليا وخارجيا، حتى أن الكثير من قراءات علم الاجتماع السياسي قالت بأن صعود الإسلام السياسي في البلاد، اعتبارا من أواسط التسعينيات، كان نتيجة حتمية لتخلي الحزب عن سياساته الاقتصادية اليسارية الداعمة للطبقات الأقل قوة.

صحيح أن عقد زعامة كليجدار أوغلو أعاد بعض الملامح اليسارية/التقليدية لتوجهات الحزب الأتاتوركي، لكنه راهنا يواجه مساعي أحزاب يمين الوسط “الرأسمالي” إعادة تجديد روحها، عبر حزبين يمينيين جديدين، أحدهما هو حزب الديمقراطية والتقدم بقيادة وزير الاقتصاد السابق علي بابا جان، الذي تكاد سمعته الاقتصادية في تركيا أن تكون أسطورية. والآخر هو حزب المستقبل، الذي أسسه رئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو، حيث يُشيد تمايزه السياسي عن الإردوغانية في مسألة “نظافة الكف”.

خيار حزب الشعب الجمهوري في هذا المقام بالغ الصعوبة، فإما أن ينزع لخطاب اقتصادي لصالح الطبقات الوسطى والفقيرة التركية، وبذا يخسر ولاء طبقة الرأسماليين المدنيين، الذين يعتبرون أنفهم حُماة الحزب وذراعه الاقتصادي، بالذات منهم أعضاء جمعية توسياد الشهيرة، التي تواجه تجمعات رجال الأعمال المتحالفين مع حزب العدالة والتنمية. أو أن يستمر الحزب بنظريته الغائمة حول الاقتصاد السياسي، وبالتالي أن يترك الحافز والقيمة المضافة في المسألة الاقتصادية، بالذات في أية انتخابات قادمة، أن يتركها لحزب يمين الوسط الجديدين، ليستفيدا من أخطاء الإردوغانية المريعة في الملف الاقتصادي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى