المرايا السحرية؛ ليلٌ أبدي

النشرة الدولية –

في محاولات رفع قيمة مقطوعة موسيقية ما، يتم ربطها بالتجرد من الزمن. يقال “خالدة” أو “أبدية” timeless “بدون وقت”، أي الذهول بمقدرتها ـ عند مجموعة من الأفراد ـ على تجاوز مفهوم الأزمنة الكلاسيكية وخضوعها لهم.

في هذه الأثناء، يدور في مكان مجهول من الكون، قرص نحاسي معلق على مسبار “فوياجر” المركبة الفضائية الآلية التي أطلقتها ناسا عام 1977 تلتها بعد ذلك نسخة إضافية “فوياجر 2”. صمم القرص على شكل أسطوانة موسيقية كالتي تدور في آلة الفونوغراف. على سطحها رسم توضيحي للجسد البشري، وخريطة توضح مكان الأرض من الكون، ورموز مختلفة. بداخله أرشيف مختصر لتاريخ “الحضارة” الإنسانية على الكوكب، أو “أهم” نتاج بشري من صور، وأصوات، وموسيقى.

القرص هو محاولة تقديم وشرح عن سكان كوكب الأرض، ورسالة تواصل في حال وقع أمام كائنات واعية في الكون. السؤال هنا بأي زمن سيتم تلقي الموسيقى من قبل هذه الكائنات إن وجدت؟ أو استطاعت إدراكها كما نفعل؟ الماضي أو الحاضر أو المستقبل؟ مبهم.

الحيرة ذاتها وقعت بها عندما بدأت الكتابة هنا باستخدام فعل من الماضي لوصف أغنية من أغاني بيورك، إلى أن أثبت المضارع (الحاضر المستمر أو التام في لغات أخرى) فعاليته وجدارته بوصف لعب الموسيقى في الهواء.

تعبّر “بيورك” عن إحساسها وإدراكها معا لفعل الذوبان في أغنية “أضواء الشمال أو ربة الفجر”، بتلك الرغبة الشديدة المتجسدة بفقدان الفردانية الخالصة مقابل الالتحام مع كيان الآخر، “السيلان” بعذوبة نحوه وفيه كجريان المياه. كأن الذائب (عن رغبة) يفقد صلابته وتماسكه أمام هيمنة ما يرغب أن يكون جزء منه أو قربه، الذوبان مع ذلك الآخر، غامض الهيئة، مجهول المعالم، أكان كائن حي أو شيء، لكنه يملك شكل بسيط حتى أن ظلال الجبال تألفه.

أيضا، يتجسد الذوبان بصريا في غلاف ألبوم “vespertine” مُكملا وداعما التخيلات المجردة في كلمات الأغنية.

المثير للاهتمام في صفات “دراكولا” الخارقة للاعتياد “ظاهريا” وجودها في عالمنا بأشكال واقعية

تظهر “بيورك” كأنها على شاطئ بحري أو هكذا يوحي، راخية جفونها، مُمددة، تاركة جسدها في حالة من التسليم لما حولها من ضوء، والتفاف عنق بجعة بيضاء حول عنقها. كأنها تعيد إنتاج وصياغة الالتفافة والاحتواء ذاته في سردية “ليدا والبجعة” المذكورة من قبل هوميروس في ملحمة الإلياذة. بحسب الأسطورة الاغريقية؛ وقع رب الآلهة “زيوس” في حب الأميرة البشرية “ليدا”، وجودهما في عالمين مختلفين عن بعضهما في الصفات حال إلى رغبة مبطنة لـ”زيوس” في اختيار هيئة تسهل عليه الاتصال معها دون قيود. هبط “زيوس” من مركزه المقدس في قمة “جبل أوليمبوس” متنكرا بهيئة بجعة بيضاء، نزولا للقاء “ليدا” أثناء تجولها في جوف غابة أو بقعة عشبية.

بحثيا فُسر تنكر “زيوس” باحتوائه أبعاد آثمة قائمة على التلاعب والعبث والشر، محطما بذلك مفهوم السكينة والجمال المحيط بهالة البجع، وتصدع المثالية المتمثلة بصفات الآلهة هبوطا وتقاطعا مع الأفعال البشرية المائلة للهشاشة في أكثرها.

الليليّ أو الدُجى “vespertine” عنوان ألبوم المغنية وكاتبة الأغاني بيورك “Björk” الصادر عام 2001. شعريّا؛ الكلمة تفضي إلى عدّة معاني أغلبها يصب في وصف تلاشي أي مصدر من مصادر النور. للدقة، هبوط الغسق. أيضا، كل ما يدب فيه اليقظة والحركة عند اختفاء ضوء النهار وغياب سطوع الشمس كالخفافيش والبومة. فلكيّا؛ اللحظات السحرية القاتمة، بعد أفول وهج الشمس المائل إلى واحد من درجات اللون البرتقالي، وانطفائها من جهة على حساب الجهة الأخرى من الكوكب. يستخدم أيضا في علم النباتات لوصف تفتّح بتلات بعض أنواع الزهور ليلا، ذلك بسبب هشاشتها وضعفها في مقاومة أشعة الشمس، متفادية بذلك التبخّر السريع لفقدان الماء وذبولها.

تحتوي أغنية Aurora تصاعدية نحو وصف اللحظات المتجدّدة للنفس الأول للصباح، منادية “بيورك” لـ أضوء القطب/الشمال أو إلى  “ربة الفجر” أورورا، استهلاما من التسمية الرومانية القديمة. تقول الأسطورة، إن أورورا ناجت ـ كما فعلت بيورك صوتيا ـ إلى إله السماء والبرق وملك الآلهة والبشر في الميثولوجيا الرومانية “جوبيتر”، طالبة منه الخلود الأبدي لحبيبها “تيتونوس” غافلة عن اللعنة الزمنية المتمثلة بأفول مرحلة الشباب لجميع الكائنات الأرضية نحو الشيخوخة ومن ثم الموت. بقي حبيبها مؤبدا كما رغبت لكن جسده مضى بطبيعة الحال نحو التهالك رويدا. ذوى تدريجيا إلا أن اختفى كليا، وبقي منه صوته يصدح في الفضاءات دون جسد. كأن الخلود أو الأبدية أمر ممكن لكن خاضع للمقايضة، وتقديم التضحيات والقرابين مقابل ذوبان الوقت وتبخره صعودا أمام المخلد الأبدي.

يتقاطع مصطلح “الليلي” في الصفات مع الشخصية الفلكلورية الألمانية “مفستوفيليس” الاسم المتداول في الحكايات الشعبية لوصف الكائنات ذات السلوكيات الشيطانية، والأفعال المرتبطة بالسحر والشعوذة. الاسم مزيج من نحت ثلاث كلمات يونانية: “كاره الضوء أو غير محب للضوء”. تم ذكره محوريا في العديد من السرديات الروائية والشعرية. ومسرحيا أيضا؛ أشهرها في مسرحية “دكتور فاوست” للكاتب “كريستوفر مارلو” وأيضا في “فاوست” لـ “يوهان غوته”.

الجميل في “مفستوفيليس” قدرته على اختراق النسق من سردية إلى أخرى. في متحف سالار جونغ الواقع في الهند، عرض لمحاكاة نحتية من الخشب لشخصية “مفستوفيليس” تعود للقرن التاسع عشر، اسم العمل وصاحبه مجهول، لكن يرجح مكان صناعته في فرنسا. للوهلة الأولى تبدو المنحوتة تابعة أو مكملة للمنحوتة المعروضة خلفها، في الحقيقة لا وجود لمنحوتة ثانية، إنما الظاهر انعكاس الوجه الخلفي للمنحوتة ذاتها سببته المرآة المعلقة في الحائط. وجهها الأمامي لـ “مفيستوفيليس” والخلفي لـ “الفتاة غريتشين” الشخصية المخدوعة.

يستدعي هذا الانعكاس غير الاعتيادي؛ التوغل في انعكاسات لشخصيات أسطورية مثيرة للاهتمام في العوالم الغرائبية، وعلاقتها الإشكالية مع المرايا والكرات الزجاجية، كرؤية المستقبل والماضي، التبصر، وأيضا أداة محتملة ضمن الطقوس السحرية. اختفائها أو عدم وجودها. انعكاس “الكونت دراكولا” المنعدم أمام المرايا، على سبيل المثال.

الجميل في اسم “دراكولا” المعاني المتعددة في اشتقاقاته. بالرجوع إلى المصدر الأساسي للكلمة، نجد “التنين” وأيضا “الحجيم”، ليصبح النحت النهائي للكلمة “الشيطان” بحسب معالجة برام ستوكر الأدبية. هنا نجد تقاطع بين “مفيستوفيليس” و”دراكولا” في كره الضوء بأبعاده المختلفة، والمتعة في الفتك بالضحايا.

لم يكن “دراكولا” في أماكن مختلفة جغرافيا. انعدام قدراته على التواجد بأماكن عدة في وقت واحد، أو الطيران، الاختفاء، الوجود الشبحي من العدم، كحال أغلب الشخصيات الخرافية الخارقة للطبيعة. مكانه الوحيد؛ قلعة (المسماة اليوم “قلعة بران” في ترانسيلفانيا، رومانيا) مُعلقة على قمة جبل بين سحب من الضباب، تنشط عندما يفعل هو. كان عالم “دراكولا” منقسما بين الحياة ليلا بين غرف القلعة وممراتها المعتمة، بقليل من ضوء الشموع الخافت. والموت نهارا في تابوت مبطن بقماش يميل إلى اللون الأحمر القاني، يوحي عمقه الشديد وكأن آلاف من الديدان القرمزية غُسلت بالمياه المغلية ومن ثم جُففت بالشمس وسُحقت على هيكله الداخلي.

في علم النفس يطلق اسم “اضطراب تبدد الشخصية” على الأشخاص المصابين بفقدان التواصل واختلاط الشعور نحو أمور مختلفة منها الواقع وجسدهم الخاص، حيث إذا مر المصاب من أمام مرآة لا يميز ذاته

أسطوريا، “دراكولا” هو كائن غسقي، يخشى تأثير أشعة الشمس أو ضوء النهار. أنيق. أبدي لكن مهدد باحتمالية موته رفع صليب أمامه، أو طعنة سكين مصنوع من العاج في قلبه، أو التلويح بعنقود من الثوم على مسافة قريبة من جسده. يتغذى على مص دماء ضحاياه، اختفاء انعكاسه أمام المرايا، الأمر الذي يتخذ عدّة تأويلات. بعض المعالجات تحيل إلى تفسير هذا الظواهر شعوره بالعار وكرهه الشديد لذاته، الناتجة عن رغبة البقاء قدر الإمكان في الظل.

المثير للاهتمام في صفات “دراكولا” الخارقة للاعتياد “ظاهريا” وجودها في عالمنا بأشكال واقعية. فمثلا؛ يولد أشخاص حاملين جلود ذات حساسية عالية وغير مقاومة للضوء، تحترق بدقائق قليلة بفعل أشعة الشمس، لذلك تقتصر ممارسة حياتهم ليلا. يطلق عليه اسم “جفاف الجلد المصطبغ” (Xeroderma pigmentosum)، الغريب في تسميته الشاعرية البديلة في العربية مرض “أطفال القمر”.

في علم النفس يطلق اسم “اضطراب تبدد الشخصية” على الأشخاص المصابين بفقدان التواصل واختلاط الشعور نحو أمور مختلفة منها الواقع وجسدهم الخاص، حيث إذا مر المصاب من أمام مرآة لا يميز ذاته، أو لا يراها في بعض الحالات المتأزمة.

أيضا، يوصف نظام تغذية بعض الكائنات في الطبيعة كالخفافيش والبعوض بـ”التغذية الدموية” لاعتماده بشكل جوهري على امتصاص دم فريسته وأيضا يتقاطعون مع “دراكولا” في النشاط ليلا.

المفارقة أن المنظومة القائمة في معظم الدول، بما تحمل من مؤسسات، وقيم، وتوزيع ثروات، وحدود، وتمييز عنصري وعرقي وجندري، في أغلبها؛ نشطة ليلا ونهارا على امتصاص دماء الأفراد وانهاكهم، مع الانتباه على إبقاء ما يكفي من دمائهم لخدمته واستمراريته، وبما لا يزيد عن الاندفاع نحو القيام بفعل مقاومة جدي، أو تغيير جذري.

تبدو انعكاسات أدواتهم وسلوكياتها في المرايا ظاهرة بكل تجلي ووضوح، بما تحمل من عنف وقمع وعبودية للسلطة، كما في مرايا عدد من المحتجين المرفوعة أمام وجوه شرطة مكافحة الشغب بأحد الاحتجاجات السلمية منذ عدة سنوات مضت، المطالبة بتغيير النظام القائم في كييف، أوكرانيا. وتداخل أجساد الشرطة المنعكسة الموحدة في الزي، داخل الأجساد المضادة لهم المتنوعة. وكأن المرايا تقول: انظروا جيدا إلى ما أصبحتم عليه، جميعكم متشابهون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى