إعصار الرئيس الفرنسي ونكبة مرفأ بيروت* فارس خشّان

النشرة الدولية –

لم يتخرّج كبار هذه الطبقة، لا من النضال الديمقراطي، ولا من التدرّج السياسي، ولا من معاهد العلوم السياسية أو الإدارية. كبارهم أتوا بالوراثة، والفخورون من بينهم ممّن اقتحموا هذا النادي، أتت بهم البندقية والحروب والصراعات المسلّحة.

هؤلاء أنتجوا نوابا ووزراء. هؤلاء أنتجوا قضاة وضباطا. هؤلاء أنتجوا مدراء عامين وخبراء. هؤلاء أنشأوا ميليشيات ودويلة ووزارات خارجية. هؤلاء تحكموا بالشاطئ والأنهر والغابات. هؤلاء أنتجوا وسائل الإعلام ومديريات الإرشاد والتوجيه. هؤلاء أنتجوا لمدارسهم المناهج التربوية ولبلاطاتهم كتابا وشعراء ورسامين وموسيقيين ومسرحيين وسينمائيين. هؤلاء أنتجوا من الشعب أغناما تعشق جزّارها.

كان ماكرون يحمل مشروعا وُلد في أبريل 2018، أي قبل شهر من آخر انتخابات نيابية، فوجد ناسا يحملون مشروعا وُلِد في 17 أكتوبر 2019

الطبقة السياسية اللبنانية نزعت الأرحام، واستثمرت بفيكتور فرانكشتاين، صانع المسوخ. باسم الإله الواحد، حوّلت هذه الطبقة أبراجها العاجية إلى ملكوت السماوات، ونصّبت نفسها ناطقة باسمه، ومدركة لإرادته. بمناجاتها زحفا تنهال عليكَ النعم، وبمواجهتها واقفا تسقط عليكَ اللعنة.

هذه الطبقة السياسية المنتجة لكل “النُخّب”، تضع نفسها فوق كل مساءلة وحساب وانتقاد. لا مسؤولية تقع على عاتقها، مهما حصل. تتبادل التهم، حتى تضيّع المسؤوليات. لقد حوّلت الفوضى إلى محميّة. كلما استشعرت بالخطر، لجأت إليها، وقدّمت لها الأضاحي البشريّة.

إعصار فرنسي

إلى بلاد هذه الطبقة السياسية، جاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على عجل ليتفقّد الكارثة التي عصفت ببيروت.

كان يحسب أن اللبنانيين سيُهلّلون ليسراه التي تحمل حقيبة الإسعافات الأولية وليمناه التي تقبض على “صندوق الإعاشة”.

سفيره في بيروت أخبره عن الجرحى الذين لا يجدون سريرا في ما بقي صالحا من المستشفيات، وعن الجوع الذي سرّع وتيرته، بعدما أتى انفجارا المرفأ ـ الفرنسيون يتحدّثون عن انفجار أوّل تسبب بالانفجار الكبير ـ على إهراءات القمح وعنابر المواد الغذائية والأدوية.

لكنّ ماكرون، حين نزل إلى أرض منطقة الجميزة البيروتية التي عصف بها “انفجارا المرفأ”، لم يجد في المئات الذين تجمّعوا هناك، من يئن جوعا ويمد يده متوسلا بل من يصرخ غضبا ويمد القبضات عزْما.

تفاجأ، بهؤلاء الذين يصطفون أمام المنازل المنكوبة، يحدّدون له جدول أعمال لم يكن يُفكّر به مطلقا.

لم يكونوا يريدون أن يحدّثهم لا عن الغذاء ولا عن الأدوية، بل عن الطبقة السياسية التي جاء ليجتمع بها، ويُلحِم تشققاتها، ويعزّيها، ويذكّرها بالتزامتها “التقنية” في مؤتمر “سيدر” الاستثماري.

كان يحمل مشروعا وُلد في أبريل 2018، أي قبل شهر من آخر انتخابات نيابية، فوجد ناسا يحملون مشروعا وُلِد في 17 أكتوبر 2019.

حجر الزاوية في مشروع ماكرون هو هذه الطبقة السياسية التي تضم “حزب الله”. إعادة بناء الصرح المهدّم، بالنسبة لهؤلاء اللبنانيين، يبدأ بإزالة جميع هؤلاء من الوجود.

أربكت الصرخات الغاضبة ماكرون. أخرجت خطابه الرسمي، وليس برنامجه، عن “الجادة المرسومة”، فانضم إلى الناس في هجاء الطبقة السياسية اللبنانية، وإذ أكد أن المساعدات الدولية التي ستتولى بلاده تنسيقها لن يتم وضعها في “يد الفساد” أي في يد السلطة اللبنانية، تعهّد أن يكون هو صوتهم معربا عن سعادته بغضبهم، وذهب به الأمر الى مستوى إطلاق إنذار: “سأطلب من المسؤولين اللبنانيين أن يضعوا ميثاقا جديدا، وأنا عائد في الأول من سبتمبر، لأرى ماذا أنجزوا”.

إلى أمثال دياب، مطلوب عهد التحقيقات لكشف الحقيقة التي لا تزال رهينة الكثير من الأسئلة

صحافية فرنسية، كانت على إحدى القنوات التلفزيونية في باريس، علّقت، بكثير من الدهشة، عندما سمعت ماكرون يقول ذلك ويردده: “إنه يتكلم مع المسؤولين اللبنانيين، كما لو كان يتكلّم مع وزراء في الحكومة الفرنسية”.

هذه الطبقة السياسية التي تقدّم نفسها لشعبها كما لو كانت آلهة، بدت، في أثناء زيارة الرئيس الفرنسي، راضية بذلّها أمامه.

في الواقع، هي لا تهمّها أقواله، بل أفعاله. يمكنها أن تعتبره صوتا أضيف إلى أصوات لبنانية كثيرة ترفضها وترجمها وتشتمها وتنال منها. ما يهمها أنه أتى إلى لبنان، واضعا حدا لمقاطعة كبار المسؤولين الدوليين لها.

رئيس الجمهورية ميشال عون، ومن دون أن يُدرِك على الأرجح ما نطق به، فضح هذه الحالة لدى طبقة المسؤولين، عندما أعلن، اليوم، أن انفجار المرفأ “فكّ الحصار الذي نتعرض له”.

هذا تفكير دعائي. مسارعة الدول إلى نجدة شعب منكوب، لا علاقة لها بالسياسة. لأن هذا التفكير، لو كان منطقيا، لانتهى العداء بين لبنان وإسرائيل، لأن الأخيرة، هي الأخرى، عرضت مساعدات على لبنان، وذهبت إلى حد إنارة مبنى بلدية تل أبيب بالعلم اللبناني.

ولكن، المنطق لا يهم، وحدها المصلحة الأنانية هي البوصلة، وهي جل ما وجده عون، في واحد من أعنف الانفجارات في العالم وأكثرها كارثية على شعبه.

وعون هو نموذج عن هذه الطبقة السياسية التي لا تفكّر إلا باستمراريتها، وبمصالحها، مهما كان الثمن.

هذه الطبقة التي تسبّبت بالحروب، وباعت البلاد لأجندات خارجية، وأفلست الخزينة، ودمّرت البيئة، واحتجزت ودائع الناس، وقضت على النظام المصرفي، وضربت القطاع السياحي بعدما كانت قد ضربت القطاعين الزراعي والصناعي، لن يرف لها جفن، وهي تضحك في سرّها، إذا ارتد انفجار كارثي عليها بالفوائد.

وهذا ما لا يمكن أن يعرفه لا ماكرون ولا غيره في العالم، فيما الشعب اللبناني يعيشه، في كل لحظة وفي كل ثانية، ويدفع ثمنه غضبا وهجرة ومرضا وفقرا وموتا.

ماكرون، بالنتيجة، له أهداف موضوعية في لبنان، ولو تكلّلت بكثير من الوجدانيات التعبيرية، فهو آخر موطئ قدم لبلاده على الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، ومن آخر قلاع الفرنكوفونية.

مصلحته هذه تملي عليه، بالتأكيد، رؤية لبنان دولة قابلة للحياة، ولكنّها، بالنسبة له ولبلاده، ليست قصة حياة أو موت، كما هي الحال بالنسبة للبنانيين.

وهكذا، فإن الكارثة التي عصفت ببيروت، تعني له، قبل أي شيء آخر، المسارعة إلى تقديم المساعدات، بينما تعني للبنانيين حلقة في سلسلة لا تنتهي من المآسي التي لا قعر لها.

ولم ينف رئيس الحكومة حسّان دياب تقارير صحفية أشارت إلى أنه في الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء، وعندما سأله بعض الوزراء عمّا إذا كان قد تلقى تقارير تحذّره من وجود مواد متفجّرة، أجاب: “نحن لم نكن بوعينا، والكل يعلم أنّ فكرنا كان مركزا على مصائب كبرى في مكان آخر”.

وهكذا، فإن واحدا من كبار مسؤولي الدولة يقر بأنه لم يكن واعيا لخطر يُحدق بالعاصمة، موجود في واحد من أهم أعمدة الاقتصاد اللبناني، أي مرفأ بيروت، وعلى تخوم المناطق السكنية.

ماكرون، بالنتيجة، له أهداف موضوعية في لبنان، ولو تكلّلت بكثير من الوجدانيات التعبيرية، فهو آخر موطئ قدم لبلاده على الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، ومن آخر قلاع الفرنكوفونية

إذن، هذه الكارثة هي، قبل أي شيء آخر، وليدة “غياب” المسؤولين عن “الوعي”، سواء كان السبب وراء وقوعها، عمل استخباراتي أو إرهابي أو مجرد حادث.

إلى أمثال دياب، مطلوب عهد التحقيقات لكشف الحقيقة التي لا تزال رهينة الكثير من الأسئلة.

قبل أن يلتقي ماكرون بدياب عند عون بحضور رئيس مجلس النواب نبيه برّي، كان قد اكتفى بتحقيق فتحته، النيابة العامة في باريس، على خلفية سقوط قتلى وجرحى من حملة الجنسية الفرنسية، لكنه، عندما “جوجل” نتيجة اجتماعه بهم، ذهب إلى تبنّي مطلب إنشاء لجنة تحقيق دولية.

في هذا الاجتماع، يُرجّح أنه فهم جيدا ماذا قال له الناس في الجمّيزة.

خاتمة

نيترات الأمونيوم، علّم اللبنانيين درسا قاسيا.

لقد ثار.

انفجاره الذي قتل ناسنا وجرحهم ودمّر منازلهم وأتى على أكبر مرافئهم وقضى على مستورداتهم الضرورية المدفوع ثمنها بالعملة النادرة جدا، كان ناطقا.

قال في عصفه كما في حممه: لا يمكن أن تتعاطى معي خطأ، وأبقى ساكنا. لا يمكنك أن ترميني كالركام، وأبقى هانئا. لا يمكنك أن تعتقلني، ولا أفتّش عن مخارج. لا يمكنك أن تحرقني وأبقى باردا. لا يمكنك أن تبقى أصمّا وأنا أصرخ غضبا.

هذه كانت ثورة نيترات الأمونيوم. ماذا عن ثورة الضحايا؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى