الفساد قصم ظهر لبنان والانفجار الكارثي سدد له الضربة القاضية* ريتشارد هول
النشرة الدولية –
كي نفهم بحق وقع الانفجار الذي مزّق قلب العاصمة اللبنانية، وآثاره على المدى البعيد، من الضروري العودة بالزمن إلى اليوم الذي سبقه، فقبل أن تتحطّم آلاف النوافذ عبر المدينة والتلال المشرفة عليها، كان لبنان قد عاش سلسلة من موجات الصدمة التي غيرته كلياً.
قبل أن تُزهق أرواح وأرزاق لا تُعد ولا تُحصى، كان البلد واقعاً بالفعل وسط انهيار اقتصادي غير مسبوق أجهز على طبقته الوسطى، وأغرق فقراءه في العوَز، ويتوقع بعض خبراء الاقتصاد أن ترتفع معدلات الفقر في لبنان إلى أكثر من 80 في المئة.
وقبل أن يخيّم الظلام على بيروت بفعل الانفجار، كانت معظم المناطق في البلاد تُعد محظوظة إن زُوّدت بأكثر من بضع ساعات من الكهرباء يوميّاً، بسبب عجز الحكومة التي تعاني ضائقة مالية، تمنعها عن تحمّل نفقة شراء ما يكفي من الوقود، وصباح يوم الانفجار نفسه، اقتحم عشرات المتظاهرين وزارة الطاقة، احتجاجاً على زيادة ساعات التقنين الكهربائي (اليومية).
وقبل أن يدفع الانفجار بمرضى السرطان إلى الفرار من أجنحتهم داخل المستشفيات التي أصيبت بأضرار بالغة، كانت هذه المنشآت الطبية عينها ترزح تحت ضغط جائحة تزداد سوءاً يوماً بعد يوم، وقد أعاد البلد منذ أسبوع فقط فرض إجراءات الإغلاق، وسط ارتفاع جديد في أعداد الإصابات بوباء كورونا.
وقبل أن يبثّ الانفجار الكيماوي الغازات السامة في الهواء، كانت مياه لبنان وشواطئه ملوّثة لدرجة خطيرة، بينما تتدفق مياه الصرف الصحي في بحره على مقربة من المكان الذي يسبح سكانه فيه.
وقبل أن يُدمر مرفأ يستقبل الجزء الأكبر من الغذاء الذي يدخل لبنان، إضافة إلى إهراءات قمح تستوعب 120 ألف طن، كان البلد يواجه بالفعل “أزمة غذاء كبيرة”، وسط ارتفاع ما سُمّي بـ “جرائم الجوع”، إذ يقدم الناس على سرقة مواد، مثل حليب الأطفال والأكل والأدوية (من المتاجر أحياناً بقوة السلاح).
لم تشهد بعض البلدان التي اندلعت فيها الحروب مستوى الدمار الذي بلغه لبنان خلال الأشهر الستة الماضية، وهذه الأزمات المتعاقبة تجعل الانفجار الذي هزّ بيروت يبدو أقرب إلى رصاصة الرحمة منه إلى كارثة. هي الضربة القاضية التي تلقاها بلد مكسور، ويصعب التفكير في طريقة يمكنه التعافي منها.
لكن، من الذي سدد هذه الضربة إلى لبنان؟ هذا ما بدا واضحاً للبعض حتى قبل أن ينقشع غبار الانفجار.
فبينما يتواصل التحقيق في سبب الانفجار، أشار وزير الداخلية اللبناني محمد فهمي إلى أنه ناجم على الأرجح عن انفجار أكثر من 2700 طن من مادة نترات الأمونيوم المصادَرة في 2014، والمُخزّنة داخل مستودع في المرفأ منذ ذلك الحين.
ويوجد سببان فقط لتفسير وجود هذه الكمية الهائلة من مادة شديدة الانفجار في المرفأ طوال هذه المدة. أولهما الإهمال وثانيهما الفساد. وفي لبنان، يشكّل الأمران جزءاً من الحياة اليومية، وأسلوباً استخدمته الطبقة الحاكمة لقتل مواطنيها طوال عشرات السنين.
وهما السببان المشابهان اللذان يفسّران تراكم النفايات عشوائيّاً داخل شوارع لبنان، بينما تدور المناوشات حول تقاسم غنائم عقود التخلص منها، وهما السببان اللذان يفسّران عجز البلاد عن تأمين إمداد مستمر بالطاقة الكهربائية، وسبب مغادرة الآلاف من الشباب اللبنانيين البلاد كل عام.
وسرقت نخبة من السياسيين الفاسدين الذين حكموا البلاد منذ نهاية الحرب الأهلية، وتتألف هذه النخبة من أمراء الحرب الذين تقاتلوا في ذلك النزاع نفسه، حق أجيال من اللبنانيين بتلقي معاملة المواطنين لا الأتباع.
ولم تنجح هذه الطبقة في مساعيها بسبب غياب المقاومة. فقبل أن يرخي فيروس كورونا والانهيار الاقتصادي بكامل ثقلهما على لبنان، اندلعت تظاهرات شعبية حاشدة ضد الزعماء الفاسدين في كل أنحاء البلاد. وأنشد المحتجون شعار “كلن يعني كلن” اعترافاً بأنه على الرغم من مسرحية الاختصام السياسي التي تدور داخل البرلمان، كل أحزاب البلاد وزعمائه سيان. وحملت الاحتجاجات دعوة إلى إنهاء الطائفية التي سمحت لهؤلاء الزعماء بأن يبقوا في مواقع السلطة طوال هذه الفترة.
ومع أنّ الاحتجاجات كانت الأكبر والمشاركين فيها الأكثر تنوّعاً منذ عقود، فقد انحسرت بفعل ثقل الأزمات اللبنانية المتعددة. إنما لا بدّ من أن يعود هذا الغضب بعد هذه الحادثة. فهذه الكارثة تبدو فعلاً بشكل من الأشكال امتداداً للفساد نفسه الذي يقتلهم منذ سنوات.
ولخصت الناشطة اللبنانية سارة عسّاف الوضع بهذه الكلمات التي كتبتها بعد الانفجار “اغتالونا ماليّاً. واغتالونا اقتصاديّاً. واغتالونا جسديّاً. واغتالونا معنويّاً. واغتالونا كيماويّاً. ما من شكل للموت إلا وطبقوه علينا. اللعنة على طبقتنا السياسية”.
وفي مقال نشرته الكاتبة لينا منذر عشية وقوع الانفجار، أوضحت درجة اليأس التي يشعر بها كثيرون من اللبنانيين. وقد كتبت أن أسطورة الصمود اللبناني خانت البلاد، وأن “الإرهاق يُرخي بثقله على أصوات ووجوه كل من ألتقي بهم” اليوم.
أضافت، “ربما لطالما كان الصمود الكذبة التي لقنونا إياها، ونواصل تردادها على مسامعنا كي نستمر بأداء وظائفنا الأساسية، في ظل وجود دولة بلغت من الفساد درجة العجز عن تأمين الحد الأدنى من الخدمات العامة أو الاجتماعية”. وحمل المقال عنوان “اعتقدنا نحن اللبنانيين أننا قادرون على النجاة من كل شيء. (لكننا) أخطأنا”.
كل هذا حدث قبلاً. أمّا الآن فكيف سيواصلون العيش، وقد استحال جزء كبير من قلب البلاد (أي) بيروت، حطاماً؟ كيف سيزوّدون منازلهم بالكهرباء؟ كيف سيستوردون الغذاء بعد أن دُمر أكبر مرفأ في البلاد؟ كيف سيكبح النظام الطبي في البلاد انتشار فيروس كورونا بينما هو غارق بأفواج المصابين في الانفجار؟ كيف سيحصل الناس على حاجاتهم بينما يفتقرون إلى المال وقد أغلقت المحال؟
إن كانت كل هذه الأزمات مستعصية في اللحظات التي سبقت الانفجار، فماذا عن الآن؟