رواية «نازك خانم» للكاتبة السورية لينا هويان الحسن تسرد حياة فتاة من جبل قاسيون

النشرة الدولية –

تقدم الكاتبة السورية لينا هويان الحسن في روايتها “نازك خانم” الكثير من الدلالات النفسية والإنسانية، وأن الآراء السائدة بشأن الجسد تلغي هويته من خلال ازدرائه وتجاهل ما يمثله من الرغبة عليه وهنا طبعاً يلعب رأس المال الاجتماعي دوراً في تغييب المرأة.

واللافت في هذا السياق، ما يقوله الشاعر السوري الكبير أدونيس حول ظاهرة تستر المرأة فبرأيه أن في ذلك مؤشراً لتقديس الأنثى وما يقدس في ثقافتنا يحجب لكن ما يذهب إليه صاحب “مهيار الدمشقي” ليس إلا تأويلاً قد لا يؤيده الواقع الاجتماعي والأهم في هذا الصدد هو ما فرضته الفلسفات الحديثة من التحول في رؤية للجسد بحيث لم يعد دون منزلة العقل في الأهمية فالجسد بنظر “جاك لوك نانسي” يمثل ما لايستطيع الفكر أبداً أن يخترقه اختراقاً كاملاً حتى إذا كان موطن تفكيرنا وأصله، كما أن التفكير لدى نيتشه عبارة عن نشاط جسدي يقول “إني بأسري جسد لاغير” ويزداد الاهتمام بموضوعة الجسد مع ظهور الفلسفة الظاهراتية حيث لايمكن الارتباط بالعالم بنظر ميرلوبونتي إلا من خلال الوجود كجسد وأكثر من ذلك فإن فيتنغشتاين يعتقد بأن الوعي مكتوب على الجسد، ما يعني أن المظهر الجسدي يكون معبراً عن المستوى الإدراكي للمعطيات المحيطة بالذات الواعية.

وهذا المنطق الظاهراتي هو ما ينعكس بالوضوح في محتويات رواية “نازك خانم” للكاتبة السورية لينا هويان الحسن، إذ يكتنز الجسد بدلالات التمرد والثقافة إضافة إلى إرسالياته الجمالية والإيروتيكية وبذلك يتحول الجسد إلى علامة الذات على حد تعبير جان لوك نانسي.

تحيل عتبة العنوان إلى أن القصة التي تنبسط على مساحة النص تدور حول شخصية واحدة وهي تنفرد بالحضور على امتداد الرواية وينفتح قوس السرد على الشخصيات الأخرى مجيب شان، وكمال بيك، ومارك بقدر ما يخدم ذلك دور شخصية “نازك خانم” التي ولدت في قصر فاخر على سفح جبل قاسيون وما ان تبصر الدنيا حتى تموت أمها ولم ترتح أخواتها لوجود نازك التي تتمتع بمواصفات فاتنة حيث تكتشف جمالها عندما تختبر علاقة حسية مع المحامي القادم من باريس ويطلب منها الزواج وما من نازك إلا أن ترفض قائلة “انني أجمل من أتزوجك” ويفهم من هذه التجربة أن معرفة الذات بخصوصياتها التكوينية لا تتم إلا من خلال التواصل مع الآخر وذلك المبدأ يؤكد عليه ميرلوبونتي فبرأيه أن الجسد موجودٌ افتراضيٌ في أصله وحقيقيٌ عندما يتفاعل مع غيره.

إذاً فإن البطلة تختبر الحياة من خلال معايشتها لبيئاتها المختلفة وتكتسب وعياً بنفسها مع المضي في سيرورة علاقاتها بالآخر بدءاً بفضاء البيت الذي يصبح مكاناً طارداً إذ تفبرك لها زوجة الأب تهمةً تغادر على إثرها دمشق مروراً بمغامرتها الحسية مع المحامي حيث يتعمق وعيها بالجسد وصولاً لخيبة أملها بمارك الذي هجرها منصرفاً إلى عارضة بلغارية، فبدلاً أن تندب حظها وتحمل على الرجل تختار نوعا جديداً من العطر لأن المرأة التي لاتهتم بعطرها فإنها متهالكة ومشوشة وغير ممكنة التفسير على حد قول صديقها توم ولاشيء وصل بـ”نازك” إلى حافة اليأس لدرجة التفكير في الانتحار غير سخرية زميلاتهن من صفحات رواية أرادت تأليفها انتقاماً من مارك.

 

كل هذه التجارب تراكمت قبل أن تبدأ حلقة أخرى من حياة “نازك” ويكون عنوانها مجيب شان ذلك الرجل الوافد من إيران وهو من أثرياء البترول ويعترف بعقدته مع اللون الأسود لذلك لا يعجبه تمثال أسبازيا المتدثرة بعباءة لأنه هرب من مكان متشح بعباءات مدلهمة هنا تتقابل الصورة الثاوية في الذاكرة مع مايقع عليه النظر من مظاهر التحرر في باريس.

ما يضع رواية “نازك خانم” ضمن مستوى مختلف من الاتجاه الغالب في السرديات الروائية هو الاشتغال على هموم الفرد ولاتوجد سوى إشارات في فضاء النص لما يقع خارج اهتمامات الشخصية الرئيسية إذ يومئ الراوي إلى حرب أكتوبر 1973 فيما تأخذ ثورة 1968 بمساحة أوسع في شريط السرد ذلك أن “نازك خانم” شهدت حيثياتها الاجتماعية والثقافية وفي هذا التفصيل تذكرك البطلة بشخصية فردينان في رواية ” التحول” وهو اقتنع بعد تجربة الحرب بأن الإنهمام بالذات هو الاختيار الصحيح. زد على ماسبق، فإن ملمحاً آخر لهذا المنجز الروائي هو خصوصية حقلها المعجمي وما يتوارد في هذا الإطار من الكلمات والمفردات والعبارات تحيل إلى الجسد كما أن الأعمال والمنحوتات الفنية التي تتموضع في نظم السرد وهي مشحونة بإيحاءات بصرية تؤكد محورية ثيمة الجسد في تضاريس النص هذا إضافة إلى أن أسماء مشاهير السينما “صوفيا لورين، ومارلين مونرو، وبريجيت باردو، وإليزابيت تايلور، وأسمهان، تتعلق بطيات السرد ما يزيد من إمكانية تأنيث العلامة الجسدية.

يشار إلى أن قصص الرموز الأسطورية تضفر بقماشة النص هذا ناهيك عن انسياب حكايات فرعية في تيار السرد وهكذا تحفل الرواية بقصص العرافين والفنانين والمفكرين كما أن أحداثها تتوزع بين مدينتي دمشق وباريس ويعتمد السرد على بنية مدورة يبدأ برصد حركة نازك في دمشق وينتهي بمقتلها في مشهد أقرب إلى نهاية الفرسان الروس التراجيدية في المبارزة حيث يرديها كمال بيك قتيلة عندما يتأكد بأن الورود التي خبأ فيها المسدس لا ترأب الصدع بينهما.

لا يقيم هذا النص الروائي حفلة تأبين ورثاء لمصير المرأة ولا وجود لنبرة بكائية لدى شخصيات هويان الحسن إنما تتصف شخصيتها الروائية بحب التمرد وشق الممرات الجديدة مستلهمة حكمتها من نيتشه الذي يحذر من مغبة انتظار من يتولى نيابة عنك بناء الجسر الذي يتحتم عليك أن تعبره فوق نهر الحياة. إذ تبدي نازك خانم إعجابها الشديد بفرانسواز ساغان معلنة أن مرحلة الشباب هبة الحياة لنخطئ فيها كأن بذلك تكرر ماقاله فولتير: “ثق بي صديقي إن للخطأ أيضاً مزيته” كما راق لها كلام الممثلة الأميركية راكيل وولش عندما صرحت بأنها في حالة حب مع أكثر من واحد. وتضرب بكل التابوهات عرض الحائط عندما تروج للخيانة مقتنعة بأنها طريقة وحيدة للانتقام.

وهي حضرت أمام بيكاسو بكامل عريها محاكيةً في هيئتها “ليدا” وبهذا يتفاعل النص مع الأسطورة والفنون وإرث التيارات المؤسسة للتمرد لكن ما يسترعي الانتباه أن نازك التي قدمتها الكتابة بوصفها شخصية تقوض الخطاب المكرس للتبعية تستعيد مقولات مجيب شان عن الجمال والمرأة وتبنت موقفه عن المثقفين والحركة النسوية وتسكت عن التفافة على عشيقته الأمازيغية وسيلة بوسيس بتطويع العرافة لخدعتها والأمر الذي يحتم التنقيب عما لايفصح عنه الخطاب مباشرة.

أضف إلى ذلك فإن نازك تنخرط في الوسط الثقافي الفرنسي ودرست في السوربون غير أنها لاتعرف من هو فولتير وتسأل مجيب شان عن معنى الاشتراكية.

مايجدر بالإشارة هو ترتيب النص وحسن توظيف المقتبسات في مدخل فصول الرواية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button