ساعات ما قبل اغتيال الحريري وما تلاها
بقلم: سوسن مهنا
يستعيد اللبنانيون هذه الأيام تفاصيل الحدث “المفصلي” الذي شكَّل منعطفاً في تاريخهم الحديث، وهو حادث اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، وما تلاه من تطورات على صعيد العلاقات الداخلية بين مكونات البلاد السياسية والطائفية، أو الخارجية، كملف العلاقات مع سوريا، والدول العربية والمجتمع الدولي… وعلى الرغم من مرور 15 عاماً على هذا الحادث، لا يزال لبنان يرقص على حافة الهاوية.
أدخل اغتيال الحريري البلاد في صراع داخلي وموجة دموية من الاغتيالات السياسية، وانقسام حول هوية الفاعل، وصدقية التحقيق الدولي، وصولاً إلى الخلاف بشأن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، التي حددت موعد النطق بالحكم في القضية في 7 أغسطس (آب)، في تمام الساعة التاسعة صباحاً بتوقيت غرينيتش، خلال جلسة علنية.
وقائع يوم الاغتيال
صباح الاثنين، في 14 فبراير (شباط) 2005، يوم “عيد الحب”، استيقظ الرئيس رفيق الحريري كعادته عند السادسة صباحاً، وبدأ باستقبال زُوَّاره. وعند الساعة العاشرة، طلب تحضير السيارات، وانطلق موكبه إلى مجلس النواب، حيث كان يُعقد اجتماع للجان. وكما ذكرت كل وسائل الإعلام حينها، دخل مبتسماً وسعيداً إلى اجتماع اللجان، وصافح نواباً، ومازحهم.
ومن على درج المجلس، قال للنائب علي حسن خليل: “أنا فايت عند معلّمك (قاصداً رئيس البرلمان نبيه بري)، شُف لي الزعران (أي الصحافيين محمد شقير وفيصل سلمان)، ويلاقوني عالمدرسة (أي مقهى إيتوال)”. فاتصل خليل بشقير قائلاً: “عم يقول بدّو الزعران. دخل عند بري، وسيلاقيكم”. عند الساعة 12 و44 دقيقة، وفي مقهى “Etoile” قبالة مجلس النواب، دخل الحريري، يتبعه النواب باسل فليحان، وأيمن شقير، وفارس سعيد، وعاطف مجدلاني، وجلس مع الصحافيين شقير وسلمان، حيث أجرى حديثاً سريعاً معهما، مؤكداً أنه “لا أحد يزايد عليَّ في وطنيتي وعُروبتي”، وذلك بعد موجة تخوين ضد الحريري كانت تشير إلى علاقته بصدور القرار 1559.
وذكرت صحيفة “الحياة”، حينها، أنه عندما دخل الحريري المقهى مازحه أحد الزملاء قائلاً: “على هذه الطاولة موجود القرار 1559، حيث يجلس مدير مكتب الإعلام في الأمم المتحدة نجيب فريجي الذي رافق موفداً دولياً في مباحثاته في بيروت ودمشق، وعلى الطاولة الأخرى اتفاق الطائف، حيث يجلس الزميلان فيصل سلمان ومحمد شقير. أين ستجلس دولة الرئيس؟”. فأجاب: “أنا سأجلس على طاولة ثالثة تتوسَّط الطاولتين، ومن يُرد أن ينضم إليَّ فليفعل”، فانضم الجميع إلى طاولته، مشيرة إلى أنه بعد قليل اتسعت الحلقة فانضم إليها نواب وصحافيون آخرون.
غادر الحريري إلى موكبه برفقة فليحان، الذي جلس في المقعد الأمامي إلى جانب السائق. وفي هذه اللحظة، التي كانت آخر صورة للحريري، وهو على قيد الحياة، انعكاس لبُرج ساعة البرلمان على زجاج نافذة المرسيدس. أدار المحققون الصورة، ورأوا الوقت المحدد لانطلاق موكب الحريري. عشر دقائق قبل الساعة الواحدة ظهراً.
سيارة الحريري مرسيدس سوداء اللون مصفحة تصفيحاً مزدوجاً، أي إنها لا تُخترق إلا بقذيفة، وموكبه مؤلف من سبع سيارات، وكان أمامه أربع سيارات جيب لقوى الأمن الداخلي. وعندما وصل الموكب إلى تقاطع فندق “فينيسيا”، بالقُرب من فندق “سان جورج”، دوَّى صوت انفجار قوي اهتزت معه بيروت كلها، وظنَّ الناس أنه جدار صوت، أو تفجير انتحاري، لأن البلد كان يشهد في تلك المرحلة عمليات تفجير. وأصبح الشارع الذي كان يضجُّ بالحياة جحيماً، وأحدث الانفجار حفرة كبيرة حوله، وذُعر من كانوا في الفنادق القريبة لهول المشهد؛ فالثريات تتساقط، والزجاج يتطاير، والسيارات تحترق، وتوقَّف البلد، وأصبح المشهد كأنه آتٍ من فيلم صامت، ومعه توقَّفت خطوط الهاتف، وتسمَّر لبنان أمام شاشات التلفزيون.
المحكمة الدولية الخاصة بلبنان
وضع ذلك الحدث مصير لبنان على المحك، ووجِّهت على أثره اتهامات مُبطنة وعلنية للنظام السوري و”حزب الله” بالوقوف وراء عملية الاغتيال، ومن ثمَّ قرر مجلس الأمن الدولي، في أبريل (نيسان) 2005 تشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة تتخذ من لبنان مقراً لها لمساعدة السلطات اللبنانية في تحقيقاتها في هذا العمل الإرهابي.
واعتبر مجلس الأمن أن السلطات اللبنانية هي التي ستجري التحقيق بمساعدة اللجنة المستقلة، وأن الملاحقات القضائية ستُجرى أمام المحاكم اللبنانية. وفي عام 2007، تغيرت هذه المقاربة، وبناءً على طلب الحكومة اللبنانية شكَّل مجلس الأمن هيئة دولية، أي المحكمة الخاصة للبنان، وأُسندت إليها ولاية ذات شقين، أولهما التحقيق في عملية اغتيال الحريري والاعتداءات ذات الصلة، وثانيهما ملاحقة الجُناة قضائياً. وتقرَّر أن تتولى المحكمة الخاصة التحقيقات والمحاكمات.
جدير بالذكر أن الأمم المتحدة والحكومة اللبنانية وقَّعتا على التوالي في 23 يناير (كانون الثاني) 2007، وفي 6 فبراير 2007، اتفاقاً لإنشاء المحكمة الخاصة بلبنان، وأُحيل هذا الاتفاق إلى مجلس النواب اللبناني للتصديق عليه، ولكن رئيس مجلس النواب نبيه بري رفض دعوة المجلس إلى الانعقاد للتصويت عليه، واعتبر قرار الحكومة اللبنانية بإنشاء المحكمة غير دستوري، لانسحاب الوزراء الشيعة منها، وهو ما يعني أنها غير ميثاقية، لأنها لا تضمُّ المكون الشيعي، وهذا ما دفع الغالبية النيابية حينها (70 نائباً) إلى الاجتماع خارج مجلس النواب، وتوقيع وثيقة تُطالب مجلس الأمن بتشكيل المحكمة. وفي 14 من مايو (أيار) 2007، وجَّه فؤاد السنيورة، رئيس الحكومة اللبنانية آنذاك، رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، يُعلمه فيها بأن “جميع الخيارات المحلية للتصديق على الصكوك المُنشئة للمحكمة الخاصة بلبنان، قد استُنفدت”. وأشار إلى أن أغلبية نيابية قد أعربت عن تأييدها للمحكمة بموجب وثيقة وُقِّعت خارج قبة البرلمان، طالباً من الأمين العام أن يعرض على مجلس الأمن إنشاء محكمة خاصة بلبنان، وذلك “على سبيل الاستعجال”.
وفي أعقاب ذلك أصدر مجلس الأمن القرار 1757، بتاريخ 30 مايو 2007، الذي نص على وضع الاتفاق حول المحكمة الخاصة بلبنان المتفق عليه مع الحكومة اللبنانية موضع التنفيذ تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، على أن يسري ذلك اعتباراً من 10 يونيو (حزيران) 2007. فافتتحت المحكمة أعمالها في 1 مارس (آذار) 2009.
وفي السياق نفسه، جدَّد رئيس الوزراء اللبناني السابق، فؤاد السنيورة، اتهامه لـ”حزب الله” باغتيال الحريري، في لقاء تلفزيوني بثته هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، في 6 من مايو الماضي، بقوله إن الحريري أخبره “بإفشاله عدة محاولات لاغتياله من قبل حزب الله”.
قرارات دولية
عقب عملية الاغتيال دخل اللبنانيون أحداثاً ومنعطفات تاريخية في حياتهم، أهمها إنهاء الوجود السوري على الأراضي اللبنانية، وصدرت قرارات أممية، أبرزها القرار 1636 الصادر عن مجلس الأمن في 31 أكتوبر (تشرين الأول) 2005، الذي اعتبر أن اغتيال الحريري يُشكل “تهديداً للسلام والأمن الدوليين”، الأمر الذي يبرر تشكيل محكمة بطابع دولي، وذلك تحت الفصل السابع. كما صدر القرار رقم 1644، في 15 ديسمبر (كانون الأول) 2005، وتضمن إقراراً من مجلس الأمن بطلب الحكومة اللبنانية إنشاء “محكمة ذات طابع دولي”، كانت قد تقدمت به في 13 ديسمبر من العام نفسه. وصدر أيضاً عن المجلس القرار رقم 1664، في 29 مارس 2006، يطلب من الأمين العام للأمم المتحدة التفاوض مع الحكومة اللبنانية على “اتفاق يرمي إلى إنشاء محكمة ذات طابع دولي، استناداً إلى أعلى المعايير الدولية في مجال العدل الجنائي”.
عمليات الاغتيال
بعد اغتيال الحريري حدثت عمليات اغتيال عديدة في لبنان طالت سياسيين وحزبيين وإعلاميين، من أبرزهم الإعلامي سمير قصير، الذي اغتيل في 2 يونيو 2005، ورئيس تحرير جريدة “النهار” اللبنانية جبران تويني، الذي اغتيل في 12 ديسمبر 2005، ومحاولة اغتيال الإعلامية مي شدياق، التي بُترت يدها وساقها، وجميعهم من المعارضين للوجود السوري في لبنان، حينها.
وبلغ عدد القرارات الصادرة في القضية ألفاً و532 قراراً، خلال 415 جلسة محكمة، بينما بلغ عدد المستندات المودعة خمسة آلاف و183، وثلاثة آلاف و131 بيِّنة، إضافة إلى عدد الشهود الذين بلغوا 300 شاهد، في حين بلغ عدد المتضررين المشاركين في إجراءات المحاكمة 70 شخصاً.