بعد زلزال بيروت: المسؤولية الاجتماعية أولوية!* د. سهام رزق الله
النشرة الدولية –
بعد زلزال مرفأ بيروت أصبحت «المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات» أولوية ملحة وطارئة، حفاظاً على سلامة الناس وصحتهم وبيئتهم المحيطة وحقوقهم السكنية والمعيشية والاجتماعية الشاملةّ! و«المسؤولية الاجتماعية» ليست مجرّد بحث في مفهوم جديد يتألّق عالمياً في مختلف الشركات والقطاعات، لتلميع صورتها وزيادة حصّتها في السوق، من خلال عمل خيري وتقديم المساعدات للمجتمع… «المسؤولية الاجتماعية» مفهوم ضروري وفق معايير «ايزو 26000» في كل المؤسسات العامة الخاصة والمشتركة وكل المرافق الحيوية من موانئ ومطارات ومحطات نقل ومؤسسات كهرباء وسدود مياه ومخازن وقود ومستودعات مواد.. ليكون عملها مسؤولاً إجتماعياً تجاه عمّالها وموظفيها وزائريها وزبائنها ومشتركيها وشركائها وسكان المناطق المجاورة لها، ولتكون أمينة وآمنة ومسؤولة تجاهها صحياً وبيئياً واجتماعياً، لتفادي المخاطر، قبل البحث في تغطية الأضرار والتعويض عن الأذى…هذه معاني «المسؤولية الاجتماعية». ومن الواضح اليوم أكثر من أي يوم مضى، كم باتت ضرورية. فعلامَ ترتكز؟ ماذا تطاول؟ وكيف تتبلور؟
من المعروف أنّ مجال الأعمال كانت تسوده ركائز الإقتصاد الأساسية القائمة على «القاعدة الذهبية» لتحقيق أعلى مستوى من الربح، بتوسيع الهامش بين المردود والكلفة الى أقصى حد ممكن، بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى وعوامل مؤثرة ومتأثرة في محيطه على المستوى الإجتماعي والبيئي والصحي والسلامة العامة…أما المؤسسات التي يهمّها إعطاء «صورة جميلة» عن حسّها الإجتماعي والإنساني والأخلاقيات المهنية وتفاعلها مع بيئتها المحيطة، فكانت تجد ملاذاً لمرادها عبر تمويل بعض المشاريع ذات طابع المنفعة العامة والمساعدة الإنسانية (بناء جسر مهدّم من هنا، تقديم مساعدات خيرية من هناك، تخصيص مبلغ سنوي معيّن، أو نسبة من الأرباح لتقديم منح دراسية ومساعدات طبية وغيرها من هنالك…)، وتضع ذلك تحت تسمية الحس بالمسؤولية الإجتماعية، من باب المساهمة في مساعدة المجتمع لتأمين بعض الخدمات الخارجة عن إطار عمل المؤسسة وأهدافها المالية والإقتصادية البحتة.
المسؤولية الاجتماعية كتعريف سريع ترتكزعلى اهتمام المؤسسة خلال تأدية عملها، بالحرص على الاستجابة لحاجات المجتمع الذي تعمل فيه، والمساهمة في تنميته المستدامة، وليس فقط على تحقيق الأرباح.
أما الأفرقاء المعنيون بالاستجابة الى حاجاتهم فهم مختلف العملاء الاقتصاديين المعنيين بعمل المؤسسة من موظفين، زبائن، مؤسسات منافسة، إدارات عامة، هيئات مدنية من جمعيات ومنظمات غير حكومية، وسائل إعلام … تربطها بالمؤسسة عقود عمل أو قوانين مرعية الاجراء أو أنّها تتأثر بنشاط المؤسسة وتؤثر فيه، من خلال تواصلها مع الرأي العام… فيكون على المؤسسة المسؤولة إجتماعياً أن تحدّد حاجات المجتمع الذي تعمل فيه وأولويات المشاريع التنموية المطلوبة لتتمكّن من إدراجها ضمن استراتيجياتها.
هكذا ترتقي المؤسسة من العمل الخيري الذي ينتهي مفعوله آنياً (مثل تقديم مساعدة مالية لجمعية تُعنى بالمقعدين في منطقة معينة) لتلتزم بالاستجابة الى الحاجات التنموية المستدامة للمجتمع (مثل تأمين البنى التحتية المناسبة لتنقّلهم وتوظيفهم في مشاريعها التنموية المستدامة في مختلف مناطق إنتشارهم، بحيث يصبحون مستقلين مالياً عن ذويهم ولا يعودون في حاجة الى المساعدات الخيرية).
في الواقع، وبعدما تفاقمت الأزمات الإجتماعية الى حدّ تسجيل عدم قدرة الدولة على الإستجابة لوحدها الى الحاجات الإنسانية والإجتماعية للفرد أو الجماعة، ظهر بوضوح انّ الهمّ الإجتماعي بات مسؤولية مجتمعية، يتشارك فيها الجميع، وفي مقدّمهم قطاعات الإنتاج التي تُعتبر العامود الفقري للإقتصاد، فتظهّر دور المنظمات غير الحكومية ودور المجتمع المدني، كما تبلور حديثاً مفهوم المسؤولية الاجتماعية، وتطوّر بسرعة ليصبح من أهمّ المبادئ التنموية على المستويين الإجتماعي والإقتصادي. فكان من الطبيعي ازدياد إهتمام المؤسسات والشركات في ولوج هذا الباب، إسهاماً في مداواة الحاجة الإجتماعية من جهة، وترسيخاً للعلاقة المتوازنة الضرورية على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، مع تأكيد إضطلاع الدولة بمسؤولياتها كإطار ناظم وشريك أساس في المهمة، في إطار ما يُعرف بالشراكة بين العام والخاص (PPP).
ولعلّ خير دليل على تنامي هذا الدور، ما أظهرته الإحصاءات الصادرة عن منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي ( OECD)، من أنّ مساهمات منظمات المجتمع المدني تراوحت بين 6-7 بلايين دولار سنوياً في أواخر القرن العشرين. إنطلاقاً من هذا الواقع، قرّرت الشركات والمؤسسات الوازنة في الإقتصاد ـ وعلى المستويين المحلي والخارجي ـ الإضطلاع بدور متنام ٍ في المسؤولية الإجتماعية، وبلغ هذا الدور حداً تنظيمياً متجانساً مع الحداثة، فتطورت التقديمات من عطاء عشوائي غير منظّم وغير محدّد الهدف، الى دور تنموي أساسي يشكّل جزءاً لا يتجزأ من أنشطتها، يعتمد على خطط ـ برامج، منظمة، وواضحة الأهداف والمعالم لمساعدة المجتمع والمشاركة في العملية التنموية بنحو فعّال، يفضي الى كسب ثقة المجتمع وبالتالي ضمان النجاح في تحسين الأوضاع الإجتماعية وتثبيت الإستقرار الإجتماعي الإقتصادي المرجو.
على النطاق العربي، بدأ الاهتمام بالمسؤولية الإجتماعية يتنامى، وقد أُنشئت المنظمة العربية للمسؤولية الإجتماعية، التي تهدف الى رفع مستوى التعاطي مع مفهوم المسؤولية الاجتماعية على المستوى المحلي وتحويلها الى مستوى المفهوم الاستراتيجي في عمل البلديات والحكومات العربية وتعزيزها من خلال الادارة الحكيمة وتعميم ثقافتها عبر كافة الوسائل المتاحة، فضلاً عن تكريم المؤسسات الرسمية والحكومية الحائزة على شهادات الجودة العالمية «أيزو» في مجال المسؤولية الاجتماعية…
أما في لبنان، فمن الثابت انّ للمجتمع المدني دوراً كبيراً يلعبه بالتكامل والتعاون مع القطاعين الخاص والعام، فيما التحدّي الأساس في تحقيق هدفين متوازنين: تأطير دور ومدى عمل المجتمع المدني، من ضمن الاستراتيجية التنموية للمؤسسات المعنية تجاه مجتمعها بمختلف مكوناته من جهة، وتأمين الربط والتواصل المفقود بين المشاريع التي تنفذها المنظمات غير الحكومية وتوجيه التمويل المطلوب لها…
مع العلم أنّ الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية الكبرى في لبنان في السنوات الأخيرة، وقلّة الاستقرار السياسي والمؤسسي، أظهرتا أكثر فأكثر قصور الدولة في الاستجابة للاحتياجات الاجتماعية المختلفة.
كما من المعروف انّ كثيراً من المؤسسات في لبنان كان يعتمد مبدأ «المساعدة الإجتماعية»/ أي العمل الخيري الذي ينتهي مفعوله فور تقديمه، دون أن يكون ساهم في تحقيق التنمية المستدامة التي تؤمّنها برامج المسؤولية الاجتماعية (مبادرات لتأمين منح مدرسية وجامعية لمتفوقين غير قادرين على تسديد أقساطهم، مساعدات طبية لحالات إستثنائية مكلفة لا تشملها تغطية وزارة الصحة، أو حالات إجتماعية صعبة يتمّ تسليط الضوء عليها في وسائل الإعلام طلباً للمساعدة، الخ) أو على مساهمات في أعباء وطنية كبرى كمثل ما حصل بعد إنتهاء حرب تموز 2006 على لبنان، واليوم بعد زلزال مرفأ بيروت والكارثة التي تسبب بها في المناطق المحيطة، (حين أخذت بعض المصارف على عاتقها إعادة بناء بعض الجسور المهدّمة، والبنى التحتية المدمّرة، وبعض المقومات الإقتصادية التي قوّضها العدوان).
اليوم، بات من الضروري الإرتقاء بدور الشركات والمؤسسات التي تشكّل العمود الفقري للإقتصاد الوطني، ليصبح إلتزاماً بالمساهمة في التنمية المستدامة، من خلال العمل مع المجتمعات المحلية لتحسين مستوى معيشة الناس بأسلوب يخدم الاقتصاد ويخدم التنمية في آن واحد، وخصوصاً بعد صدور المواصفة العالمية ISO 26000 خلال تشرين الأول 2004 والتي تضمنت معايير المسؤولية الإجتماعية، وخصوصاً في الجوانب المتعلّقة بالسلامة والصحة والعامة للسكان في محيط عملها، إضافة الى الجانبين البيئي والقانوني، والشروط المتعلقة بالتنمية الإقتصادية.
يبقى القول، إنّ المسؤولية الاجتماعية باتت اليوم أولوية أكثر من أي وقت مضى، بعد أن ثبت بالألم الكارثي مدى خطورة اللامسؤولية على الأرواح والممتلكات، على سلامة الناس وحياتهم، كما المساكن والمرافق الاقتصادية والظروف المعيشية، كما ثبت أكثر فأكثر عدم إمكانية الدولة ولا أي دولة منفردة للاستجابة وحدها للكوارث الناتجة من خلل كهذا، والحاجة الى تضافر جهود كل مكوّنات المجتمع لمواجهة الأزمات.
واليوم، بعد ان تبيّنت عملياً على الأرض ديناميكية المجتمع المدني والقطاع الخاص المسؤول إجتماعياً، لا بدّ من وضع كل التدابير والتشريعات الضرورية لتسهيل وتشجيع ودعم وتأطير المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات، طريقاً للتنمية المستدامة والسلامة العامة صحياً وبيئياً وإقتصادياً إجتماعياً بنحو مقونن ومبرمج.
أستاذة مُحاضرة في كلية العلوم الاقتصادية لجامعة القديس يوسف.