قبل أن يغادر الكويت* حمزة عليان
النشرة الدولية –
في الوقت الذي عرفت فيه قرار “المغادرة” لمن هم مثلي فوق الستين، جمعتني جلسة مع أحد الأصدقاء الذين شرعوا بترتيب أوراقهم وراحوا يرتبون أمورهم استعدادا للرحيل، وأسمح لنفسي وفي حدود ما هو متاح للنشر أن أنقل ما دار في تلك الليلة التي تأخرت قليلاً بعد التاسعة مساءً إثر رفع الحظر المفروض.
القرار أعاده إلى عمر الشباب عندما كان في السادسة والعشرين من عمره، حين راح يبحث عن دولة يستقر بها، وفجأة وبدون مقدمات يسقط عليه هذا القرار ليمسح ستين عاماً من عمره، ويوصلوا له وللفئة التي ينتمي إليها رسالة تقضي بتصفية ما في جعبته، حتى لا تبقى تحمل شيئا من الذكريات.
أبلغ أولاده وأحفاده أنه سيفترق عنهم ولن يُسمح له بالبقاء “فهذا المكتوب يا ولدي” بعد أن جمعتهم الكويت تحت سقفها ودخلوا مدارسها وعملوا بها وفَقد أحبابه فيها وصار له أصدقاء وارتباطات، فقد حان الوقت للانفصال بعد أن قرر أحدهم أن “الجمع” بين الأب وأسرته ممنوع بحكم القانون!
لن يكون بمقدوره بعد عام 2021 الاحتفاظ بذكريات العمر وسيشعر بحالة من فقدان الذاكرة بعد مسحها، ولذلك سيتعذر عليه عندما يلتقي بزملائه وأصدقائه أن يروي لهم، أحلى الأيام وأجملها، في البلد الذي عاش فيه أكثر من نصف عمره وصارت بينه وبين أهلها علاقة غرست جذورها في الأرض.
أبلغوه بالمغادرة بصفته “وافدا” لا “مقيما” وهي التسمية الدارجة، لأنه لا يعرف بلداً آخر كما عرف الكويت، فهو يعاني مشكلة ذات وجهين: الأول أنه غريب بين أهله، والثاني أنه غير مرغوب فيه هنا، فقد صحا صاحبنا فجأة على الصدمة بعد تبلغه بقرار “فوق الستين”، لا يتحدث عن الولاء والانتماء، فهذه كلمات لم تعد موجودة ولم يعد لك مكان لدينا، ننصحك بالبحث عن مكان آخر تكمل فيه بقية عمرك.
شاركني ضيف آخر في تلك الجلسة، وشاءت الأقدار أن يخرج إلى الدنيا ويولد على أرض الكويت، يعصره الأسى من القرار، تحدث وبمرارة “أنا لم أختر المكان الذي ولدت فيه، فالطفل إذا ولد مع أمه وتركته عندما يكبر، يبقى في داخله يحمل الشعور بالأمومة والإحساس بالحنين والالتصاق بروحه بها فما بالك وأنا لي في كل مكان وزاوية ذكريات، وإن شئت فأنا ينطبق عليّ القول “كويتي الهوى”.
دخلت على الخط سيدة ناهزت الستين شاركتنا الحديث، كانت نبرة الصوت تنضح بالألم وأمضت معظم عمرها في الكويت، وهي تروي قصة حياتها، درست هنا بمدارس خاصة، كبُرت وصار لها صديقات من بنات الكويت وغيرهن من الجنسيات العربية، حياتها كلها هنا “نحن وقعنا ضحية الخلط بين أولئك العمال الذين جاؤوا بالأمس، وانكشفت بلاويهم في زمن كورونا يتقاضى الواحد منهم 100 دينار شهرياً أو أقل يصرف النصف والنصف الآخر يحوله إلى أهله، وبين وافدين لديهم بيوت وأبناء وتاريخ وعطاء وعندهم تجارة واستثمارات، وأموالهم مودعة بالبنوك الكويتية وليسوا عبئاً على الدولة، بل هؤلاء يعملون وينتجون فكيف يتساوى الحال بين الفئتين؟!”.
لم تدعني أتحاور معها أو أسألها، بل أكملت حديثها، عن بلد تعتبره “وطنها الأول” لا الثاني، هل هذه المكافأة التي ننتظرها؟ بعد كل هذا العمر؟ كنا نأمل أن نمنح إقامة دائمة، وهذا في الحدود الدنيا، بدلاً من إنزال العقوبة علينا وطردنا من ديرة أحببناها منذ تفتحت أعيننا على الحياة.
لم أتمالك نفسي أثناء النقاش الذي حصل بيننا، إلى أين سنذهب؟ أحرجني السؤال؟ لماذا يتعاملون مع كل الوافدين هكذا ويضعونهم في سلة واحدة؟ في معظم دول العالم هناك سياسات للاستفادة من المهاجرين إليه سواء بتملك بيت واستخدامه كسكن، أو بإدخاله في منظومة البلد الإنتاجية وتوظيف إمكاناته وجعله مندمجاً معه مع إعطائه حقوق الإقامة والرعاية الصحية، ثم راحوا يستعرضون بعض النماذج.
حاولت أن أبتعد به عن الموضوع لكنني وجدت نفسي عاجزاً عن الإجابة لأسئلة طرقت عقلي وذاكرتي قبل أن تتعرض للمسح والتلف!
عدنا إلى السؤال، لماذا الستين؟ هل بطرد 80 ألف “وافد” تقريباً سيتم حل مشكلة الخلل بالتركيبة السكانية؟ وهل صحيح أن الخلل يعود إلى هذا السبب؟ وهل في الوقت الذي سيخرجون فيه ستتنفس البلاد الصعداء وتنتهي المشكلة التي ما زال الحديث قائماً فيها منذ الستينيات من القرن الماضي، ولم تحل! ومن يدري فقد تتم الاستعانة بآخرين ومن جنسيات جديدة يدخلون البلاد تحت مسميات أخرى، وعندها سنردد “ليتك يا بوزيد ما غزيت”!
قبل أن أختم مقالتي هذه قررت أن أحتفظ بذاكرتي قبل مسحها وأذهب إلى أقرب محل برمجة كمبيوتر وأطلب منهم عمل نسخة احتياطية “BACKUP” أستعين بها على قضاء حوائجي فيما بعد إذا تسنى لي ذلك، أو أضعها في خزانة حديدية أحملها معي أينما ذهبت وألجأ إليها عند الحاجة.