تحقيق مالي جنائي في لبنان بمباركة فرنسية* سوسن مهنا
النشرة الدولية –
لا يتحرك مسؤولو هذا البلد المنكوب إلا إذا لوحت لهم دولة أجنبية ما بعقوبات، أو هددتهم بقطع أرزاقهم من نهب المال العام.
وهذا ما حصل خلال الزيارة الأولى للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في السادس من أغسطس (آب) الماضي، بعد حادثة تفجير مرفأ بيروت، حين قال، “إذا لم يكن هناك تدقيق في البنك المركزي، فلن يكون هناك المزيد من الواردات في غضون بضعة أشهر، وبعد ذلك سيكون هناك نقص في الوقود والغذاء”.
واعتبر كلام ماكرون رسالة واضحة لكل من جمعية المصارف وحاكمية مصرف لبنان، بأنه من الضروري إخضاع القطاع المصرفي للإصلاح ليستعيد الاقتصاد اللبناني الحر عافيته، وما لبث أن دعا الرئيس ميشال عون إلى ضرورة السير بالتدقيق المالي.
خلال زيارته الثانية لبيروت، وفي مقابلة له مع وسيلة إعلامية فرنسية (BRUT)، أكد الرئيس الفرنسي أن “الأمور كلها جاهزة، وهي بحاجة إلى إرادة حقيقية، ولن نحرر أموال سيدر قبل تحقيق الإصلاحات”، لا بل ذهب إلى حد تهديد المسؤولين بأن سيعاقبون في عدم سيرهم بالإصلاحات خلال مهلة ثلاثة أشهر.
لاحقاً أعلن الرئيس عون في تغريدة له على “تويتر” أنه “تم اليوم توقيع عقد التدقيق المالي الجنائي، الخطوة المفصلية المنتظرة على طريق الإصلاح ومكافحة الفساد”.
شرط التدقيق الجنائي الذي حدده البنك الدولي بنداً أساسياً لنجاح المفاوضات معه، كان مجلس الوزراء اللبناني أقره في 24 أبريل (نيسان) الماضي، وقرر الاستعانة بالشركة العالمية (Kroll)، بعدما تبين للسلطات اللبنانية أن خسائر المصرف المركزي وصلت إلى أكثر من 60 مليار دولار، لكن بناء على اعتراض وزير المالية في الحكومة المستقيلة غازي وزني على الشركة المذكورة، لأنها بحسب رأيه لها علاقات مع “الموساد” الإسرائيلي، دفع بالحكومة اللبنانية في يوليو (تموز) وبناء على الاعتراض إلى التعاقد مع شركة (Alvarez &Marsal Middle East Limited) وفوضت وزني بالتوقيع على العقد.
التدقيق المالي والتدقيق الجنائي
من البدهيات أن تطرح أسئلة عدة منها، لماذا تُرك مصرف لبنان طوال هذه السنوات من دون مراقبة، وما هي وظيفة المدققين الماليين، ولماذا لم يكتشفوا هذه التجاوزات والخسائر، وهل من أعمال احتيالية أخرى، وهل سيكشف التحقيق الجنائي أسماء المسؤولين والجهات التي أوصلت لبنان للانهيار؟ وما هو مصير الودائع، وهل من الممكن استعادة الأموال المنهوبة، وأين ذهبت الـ 115 مليار دولار؟
يقول المحامي الدكتور بول مرقص رئيس منظمة “جوستيسيا الحقوقية”، “من حيث المبدأ، يذهب التدقيق الجنائي إلى أبعد من التدقيق المعروف بالمستندات والأرقام، وهو مسار يستمر لأشهر، ويصل إلى محاولة اكتشاف عمليات الغش والتزوير واختلاس الأموال العامة في حال حصولها، وذلك يكون عادة تمهيداً لتكوين ملف قضائي جزائي، خلافاً للتدقيق المالي العادي الذي يسعى إلى مطابقة الإدارة المالية مع المعايير المحاسبية.
ويضيف في حديث إلى “اندبندنت عربية”، “إضافة إلى ذلك، التدقيق الجنائي يعني التدقيق التشريحي، أي إجراء تدقيق محاسبي يقوم على تحرير الأرقام عن طريق البحث في خلفيتها ومدى مشروعيتها وقانونيتها، بينما يهدف التدقيق المحاسبي العادي إلى التحقق من صحة القيود ظاهرياً من دون التعمق والرجوع إلى خلفيتها”.
استرداد الأموال المنهوبة
وعن دور القانون والقضاء في مكافحة الفساد في لبنان واسترداد الأموال المختلسة، يشير مرقص إلى ضرورة تجميع الاقتراحات وتنسيقها في بوتقة واحدة ربما تكون بموجب قانون الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، لجهة إيلاء هذه الهيئة صلاحيات هيئة التحقيق الخاصة، وتحديد رفع السرية المصرفية لمصلحتها (وليس رفعها بالمطلق كما جاء في اقتراحات القوانين المتفرقة)، وتنزيه قانون الإثراء غير المشروع وفق تعديلات 14 مايو (أيار) 2017، وإلغاء الإذن بملاحقة الموظف من الوزير، إضافة إلى إجراء تسويات تحفيزية من الهيئة المذكورة مع المختلسين، تضمن حقوق الدولة تحت رقابة القضاء.
ويتابع مرقص “ثمة سوابق حديثة عن التعاون الدولي، منها مع تونس (2011) ومصر (2011) وأوكرانيا (2014) وكازاخستان (2008- 2014) والبرازيل (2014)، وقبلها الفيليبين من 1986 حتى استرداد الأموال المنهوبة في 1998 بعد صدور عشرات الأحكام القضائية في سويسرا.
أما عن استرداد الأموال المهربة إلى سويسرا، فيرى مرقص أن السياسيين لا يفتحون الحسابات بالضرورة بأسمائهم الشخصية، بل تحت أسماء مستعارة وبموجب كيانات معنوية كالشركات، وأن لدى سويسرا قانون خاص صادر عام 2011 معروف بقانون دوفاليي، وآخر عام 2015 وقانون Potentate) Money Act) الذي يجيز تجميد أموال السياسيين الأجانب، فضلاً عن سلطة فيديرالية لمراقبة الأسواق المالية FINMA))، التي يعود إليها التأكد، مما إذا تم إجراء عناية واجبة على تحويلات المتنفذين الأمنيين والسياسيين PEPs))، للتأكد أنها غير ناتجة من فساد، فيصار إلى تجميدها بشروط مجتمعة هي لغاية الآن غير متحققة تراكمياً بالنسبة إلى لبنان، (سقوط الحكومة، فساد مرتفع، مصدر أموال جرمي، مصلحة سويسرية عليا).
في المقابل، يستبعد المحامي مرقص أن يؤدي التحقيق المالي الجنائي في مصرف لبنان إلى كشف الجهات التي أوصلت لبنان إلى الانهيار، أو الحقائق المخفية والمخالفات المرتكبة بالمال العام، “وبالتالي يجب علينا انتظار نتائجه من أجل الحكم على مدى فاعليته. كما يجب شموله، عبر خطة واضحة، عدداً أكبر من مؤسسات الدولة والإدارات والمجالس والصناديق، ما يشكل ركيزة رصينة للقضاء لملاحقة المرتكبين، لأن مجرد السير فيه من دون أي استراتيجية واضحة أمر غير منتج”.
ولا يرى مرقص أن العقد مع الشركة المذكورة سيتأثر بسبب تشكيل الحكومة، لأن وزير المالية في حكومة تصريف الأعمال وقع ثلاثة عقود تتعلق بالتدقيق الجنائي مع شركة (Alvarez) والتدقيق المالي والحسابي مع شركتي (Oliver Wyman) و (KPMG) وفقاً لقرار مجلس الوزراء، كما الرئيس عون.
العقبات التي ستواجه Alvarez
من جهة ثانية، يقول مرقص إن مسار التحقيق الجنائي سيصطدم بالعديد من العقبات القانونية، ويتساءل، “هل تمت العودة إلى قانون النقد والتسليف وقانون إنشاء المصرف المركزي اللذين يمنحانه خصوصية واستقلالاً مالياً وإدارياً واستقلالية أشخاص القانون العام؟ ألا يجب أن يوافق المجلس المركزي الذي يدير مصرف لبنان على هذه التحقيقات في ظل الاستقلالية وهل سيوافق؟”.
ويضيف “كيف سيراعي التحقيق السرية المصرفية التي رفعت حصراً بموجب القانون الصادر في 1956 لمصلحة هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان للاطلاع على الحسابات المدينة فقط لا الدائنة؟ وهل سيطال التحقيق الجنائي لجنة الرقابة على المصارف؟ وهل وجدت الإرادة فعلاً بالتضحية بزبائن الجماعات السياسية في حال التوصل إلى نتائج تصلح كمادة للملاحقة؟ بمعنى آخر، هل ستتم الملاحقة وهل أن الجماعات السياسية لن تحمي المحسوبين عليها؟ وأخيراً كيف ستتعاطى النيابة العامة التمييزية مع هذه التحقيقات، فهل ستركن إليها لاتخاذها كمادة أمام القضاء وعلى أي أساس؟”.
حصر التحقيق بمصرف لبنان غير مجد
في سياق متصل، يرى رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق باتريك مارديني، أن حصر التحقيق بمصرف لبنان فقط لن يؤدي إلى نتيجة ولن يكشف عن عمليات الغش والتلاعب، لأن المصرف أوضح أكثر من مرة أنه كان يطبق قانون النقد والتسليف، والقاضي بقرض الحكومات المتعاقبة عندما تطلب ذلك، لذا فللوصول إلى نتيجة يجب إجراء تدقيق لحسابات المؤسسات الحكومية كشركة الكهرباء وغيرها.
ويشير إلى أن الحكومة الحالية تتهم مصرف لبنان بـالـ 60 مليار دولار التي هدرت لتثبيت سعر الصرف، وهي نفسها من طلب منه خسارة “دولاراته” لدعم السلة الغذائية والمحروقات وغيرها.
وعن مصير أموال المودعين يقول مارديني “إنها تبخرت بسبب تخلف الدولة عن سداد ديونها، والتي ذهبت في دورة طويلة إلى المصرف المركزي عبر سندات الخزينة، إذ كانت الدولة تستدين من المصرف لتحسين القطاعات المختلفة من اتصالات ومياه وكهرباء، لكن كل هذه الاستثمارات كانت فاشلة”. وكان الباقي حوالى 35 مليار دولار كاحتياط، ولكن عبر دعم السلة الغذائية هبط هذا الاحتياط إلى 18 مليار دولار من أصل 115 مليار هي قيمة الودائع.
لماذا وقع اختيار الدولة على شركة Alvarez
يعتبر مارديني أن هناك شبهات على طريقة اختيار هذه الشركة تحديداً من قبل الحكومة اللبنانية. “ألفاريز شركة محترمة لكنها غير متخصصة بالتدقيق الجنائي، وكان من الطبيعي اختيار شركة (Kroll)، كما أن عرض الأخيرة كان أرخص”.
ويشرح أن عمل “ألفاريز” يختص بالاستشارات الإدارية وتصفية الشركات المفلسة أو المتعثرة. وأخيراً بعد أزمة المصارف الأوروبية تدخلت للمساعدة في إعادة هيكلة القطاع المصرفي. إذاً ليس من اختصاصها التدقيق الجنائي والكشف عن التلاعب والغش في العمليات المالية، بل وظيفتها محصورة بعمل المصارف اللبنانية الحالية، من حيث تحديد المصارف الواجب إقفالها أو بيعها أو دمجها، وهل يجب العمل بمبدأ الـ (Haircut)، بالتالي هم يقترحون حلولاً للقطاع المصرفي”.
نقلاً عن “اندبندنت عربية”