إذا الملح فسد* حمزة عليان

النشرة الدولية –

الروايات عن الملح لا تنتهي عند معرفة أهميته وقوته في حضارات الشعوب، فعندما بلغت الإمبراطورية البريطانية ذروتها، بات ملح “ليفربول” أو ملح الإمبرطورية بأسرها منتج رفاهية اشتهر في جميع أرجاء العالم.

استبشر البعض خيراً بإدخال الثقافة اليهودية إلى مجتمعاتنا العربية الإسلامية على وقع التطبيع الجارف كالمدحلة، ويبدو أن جزءا من هذه الثقافة له علاقة بعادات الأكل والطقوس المتبعة، ولعل افتتاح أول مطعم يهودي في أبوظبي كان بمثابة “الفتح” لتسويق الأكل عند “الإبراهيميين”!

وعلى سيرة الأكل، يعمد اليهود ليلة يوم الجمعة إلى تغميس خبز السبت بالملح، فالخبز عند اليهودية هو رمز الطعام الذي يعتبر نعمة من الله، وتغميسه بالملح يحفظه ويحفظ معه الاتفاق المعقود بين الله وبين شعبه المختار!

وبما أننا دخلنا في عالم الملح فسيكون مفيداً التنبيه إلى أن أوجه استخداماته وصلت إلى أربعة عشر ألف طريقة! لكن ليس المهم هذا بل المهم أنني استوحيت فكرة المقال من افتتاحية “الجريدة” يوم 30 أغسطس 2020 الماضي وكانت بعنوان “من يصلح الملح إذا الملح فسد”؟ في إشارة إلى العلاقة الترابطية بين صلاح الحكم ودرجة انتشار الفساد وكيفية حماية الديمقراطية من أهلها.

سنذهب بالموضوع إلى وجهة مختلفة لا علاقة لها بالكويت ولا بالصحة والتغذية وارتفاع ضغط الدم أو هبوطه بل بما تعنيه هذه المادة في تاريخ الحضارات والحروب وما بينهما.

صحيح أن الملح له معزة خاصة عند الآلهة، وفي الإسلام كما اليهودية يستخدم لتوثيق الصفقات والعهود، كذلك عند المسيحية وصلته “بالحكمة”، فالكنيسة الكاثوليكية لا تكتفي بتقديم الماء المقدس، بل “بالملح المقدس”، وغالباً ما يتم الجمع بين الخبز والملح، لكنه في الوقت نفسه ارتبط بالخصوبة فصغار الأسماك التي تعيش في مياه البحر المالحة تفوق من حيث العدد، صغار الحيوانات التي تعيش على اليابسة!

وجدت أن كتاب، مارك كورلانسكي، “الملح تاريخ عالمي” الصادر عن دار الساقي في بيروت والمترجم من قبل مركز البابطين هو من المراجع النادرة التي تناولت هذا الموضوع.

لم نكن نعلم مثلاً مدى أهمية الملح في الحروب العسكرية، ففي ظل غياب هذه المادة، تصبح الحرب وضعاً لا يطاق، فعند انسحاب نابليون من روسيا لقي آلاف الجنود حتفهم بسبب إصابات بسيطة من جراء افتقار الجيش إلى الملح الذي يستخدم كمطهر للجروح، ولم يكن ضرورياً كدواء أو كحصة غذائية للجنود، بل استخدم لتغذية أحصنة الفرسان التي تنقل المؤن والأسلحة وقطعان المواشي التي تذبح لتغذية الجنود.

يحفل تاريخ الأميركتين بالحروب المستمرة حول الملح، خصوصاً أن الملح ومن سيطر عليه نعم بالنفوذ والسلطة، وهذا الوضع كان موجوداً قبل وصول الأوروبيين وبقي واقعاً حتى بعد الحرب الأميركية الأهلية 1861.

من جانب آخر أكثر تشويقاً وأهمية، كان الاقتصاد الهندي بالنسبة إلى بريطانيا العظمى هو الجائزة الكبرى التي ستعزز ثرواتها، وكانت الصناعة مكرسة لصالحها وفي قلبها ثروة الملح التي تدار وفقاً لاحتياجاتها وتملك مخزوناً جاهزاً وقليل الكلفة.

كان غاندي وراء تأسيس المجلس الوطني الهندي الذي أصبح القوة المحركة للاستقلال عن الإنكليز، قاد “حملة الملح” سنة 1929 بعد اندلاع الثورة في “أوريسا”، وخاطب نائب الحكام اللورد “أروين” معلناً تجاهل قوانين الملح، واعتبر الضريبة التي فرضوها جائرة من وجهة نظر الفقراء ثم سار مع أتباعه عشرات الأميال للوصول إلى شاطئ البحر في “داندي” ثم راحو يشرعون في كشط الملح، وكانت وقفته ضد الاحتكار البريطاني للملح ذات أثر فعال، وبعد 25 يوماً من المسيرة، قام بالفعل بخرق قانون الملح بالتقاطه قطعة من قشرة الملح في “داندي”، وتحولت دعوته إلى ثورة وطنية شاع فيها “جمع الملح” وبيعه في الشوارع، وصار معظم الشعب الهندي في سبيله لإنتاج الملح، وفي عام 1931 استجاب اللورد أروين ووقع اتفاقية مع غاندي “سمح فيها للهنود القاطنين على طول الساحل بجمع الملح واستهلاكه”.

والروايات لا تنتهي عند معرفة أهمية وقوة الملح في حضارات الشعوب، فعندما بلغت الامبراطورية البريطانية ذروتها، بات ملح “ليفربول” أو ملح الامبرطورية بأسرها منتج رفاهية اشتهر في جميع أرجاء العالم.

ويبدو أن الملح سيترك أثره في شعوب المنطقة، وهذه المرة عن طريق “البحر الميت” الذي يشكل أعجوبة طبيعية أطلق عليه العبرانيون اسم “نهر الملح”!

 

فقد كان هذا البحر ملائماً لنقل الملح أكثر منه لإنتاجه والمنطقة مشهورة “باللعنات” وأبرزها تلك التي قضت بتدمير مدينتي “سدوم” و”عامورة” وأهالي تلك المدينتين كانوا من عمال الملح.

يشير الكتاب ومؤلفه إلى أن تيودور هرتزل الذي كتب عن عودة اليهود إلى أرضهم، وفي سياق تصوره لجدوى قيام دولة يهودية، افترض أن البحر الميت سيشكل واحداً من الموارد الأكثر أهمية بالنسبة إلى الدولة الجديدة التي ستعمد إلى استخراج الثروات المعدنية منه.

لقد تحققت نبوءة هرتزل التي نشرها في رواية صدرت عام 1902 بعنوان “الأرض القديمة الجديدة” فقد رسم تصوراً لزياره يقوم بها إلى دولة إسرائيل الجديدة في عام 1933 ليجد اليهود يستغلون ثروات البحر الميت المعدنية ويحولون الصحراء إلى أرض خضراء مروية ويعيشون في مزراع جماعية تصدر إلى أوروبا، وتنبأ بأن العرب سيرحبون باليهود أشد ترحيب! لما سيحمله هؤلاء معهم إلى المنطقة من تطور اقتصادي!

من عجائب الدنيا “الثماني” أن نرى اليوم نبوءة هرتزل قد تحققت على أرض الواقع أملاً في ازدهار اقتصادي سيعم المنطقة الخليجية على يد “بنيامين نتياهو” راعي السلام والازدهار!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى