«نتفليكس»… شكراً «كورونا»!* طالب الرفاعي

النشرة الدولية –

بتاريخ 25 مارس الماضي، كتبتُ في هذه الزاوية: “إن ما بعد كورونا لن يكون كما قبله”، وختمت مقالتي تلك بقولي: “ليس الغد ببعيد، لكنه بلون مختلف!” وها نحن نعيش اليوم ذلك الغد، الذي كان ملفوفاً بعباءة السر. الجديد المعتاد “The New Normal” ما زال يؤكد حضوره الاقتصادي والفكري والثقافي والاجتماعي بيننا. كثير من العادات بدأت تأخذ مكاناً لها في عيشنا، فلقد اعتدنا الكمامة، وشيء من التباعد الاجتماعي في لقاءاتنا واجتماعاتنا الأسرية، واعتدنا أكثر التأكد من غسل اليدين، حتى أصبحت عادة لحد الوسواس عند البعض، وصار البعض مهموماً بمتابعة آخر الأخبار الخاصة بإيجاد لقاح ضد “كوفيد-19″، وفقدت الأسواق جزءاً كبيراً من بريقها، وأعلنت شركات حول العالم إفلاسها، بسبب انعدام التسوق، وصار تواجدنا في البيت شأناً مألوفاً، على الرغم من إزعاجه! ومن بين الجديد المعتاد، مدّ وتأكيد علاقتنا مع شاشة الـ “نتفليكس- Netflix” التلفزيونية.

 

“نتفليكس”، شركة ترفيهية أميركية أسسها “ريد هاستنغز-Wilmot Reed Hasting”، و”مارك راندولف-Marc Bernays Randolph”، بتاريخ 29 أغسطس 1997، في “كاليفورنيا-California”، وتخصصت في تزويد خدمة البثّ الحي والفيديو حسب الطلب ووفق الاشتراك المدفوع. ولقد توسعت الشركة وأضافت خدمات جديدة لمتابعيها، ونزلت عليها جائحة كورونا برداً وسلاماً، كحدث سعيد من هبات السماء الأجمل، حيث غدا لدى “نتفليكس” حالياً 183 مليون مشترك حول العالم، وقفزت إيراداتها في الربع الأول من 2020 بمعدل 28%، لتصل إلى 5.7 مليارات دولار. وبهذا أصبحت “نتفليكس” حديثاً دائراً في الكثير من الدوائر الاقتصادية والاجتماعية. ومؤخراً، ارتفعت أصوات كثيرة تشير إلى “الخراب والدمار الأخلاقي والفكري”، الذي تحمله “نتفليكس” للمشاهدين، وتحديداً المشاهدين العرب والمسلمين، وبتحديد أدق لفئة الأطفال والناشئة والمراهقين.

 

وإذا كان من سؤال واجب في هذا المقام فهو: هل يعرف من يرددون هذه الآراء أن المشاهدين العرب والمسلمين، في معظمهم يحملون تلفونات ذكية؟ وأن ما يمكن أن تقدمه هذه التلفونات من متعة شخصية في شتى نواحي الاهتمام الإنساني، يفوق بمرات ما تقدمه “نتفليكس”؟ ويأخذ الحديث نغمة أخرى متى ما انتقلنا إلى القول بأن عدداً كبيراً من الأمهات، والأمهات الصغيرات تحديداً، صرن يستعنّ بأجهزة التلفزيون، والآي باد، والتلفون الذكي، لتهدئة أطفالهن. وجميع هذه الأجهزة تبث للأطفال، الذين لا تتعدى أعمار بعضهم السنتين، تقدم لهم زاداً فنياً ممتعاً ومسلياً عن القصص الغربي، والخرافات الغربية، والأغاني الشعبية الغربية، وكل ما هو غربي! وهذا ما يجعل أطفالنا يشربون ويتشربون بمعطيات العالم الغربي الفنية، مع حليب الرضاعات! لذا، فإنني أرى أن القول بأن “نتفليكس” تنقل الرذيلة إلينا قول لا يعي كنه اللحظة الإنسانية التي نعيش، وأن الخوف على الفضيلة والهرب من الرذيلة صار، في العالم كله، شأناً أسرياً بالدرجة الأولى، فمن أراد أن يُحصّن أطفاله فعليه بالدرجة الأولى تنشئتهم التنشئة الصحيحة، ويرعى طفولتهم حناناً وقرباً واهتماماً وفكراً وتعليماً، وهذا وحده ما سيحصّنهم في القادم من الأيام.

 

الإنسان العربي المسلم جزء لا يتجزأ من منظومة العالم الصغير والصغير جداً، والذي أشير إليه ليس بعالم القرية الكونية، بل هو عالم اللحظة الكونية، وأن الإنسان اليوم هو محلي بقدر ما هو عالمي، ولذا أطلقت عليه في كتابي الأخير “لون الغد… رؤية المثقف العربي لما بعد كورونا” تسمية “الإنسان المحعالمي”. وهذه التسمية/ النعت تصلح على الأبناء أكثر مما تصلح على الكبار.

 

لا خوف على عيالنا متى ما حصّنّاهم في صغرهم وأعطيناهم الثقة في كبرهم. الخوف كل الخوف في الحصار الذي يفرضه بعض الأهالي على عيالهم ويدفعهم قسراً إلى الذهاب نحو كل ما هو ممنوع، ليس حباً بالممنوع ولكن انتقاماً من ذلك الحصار الذي لا يليق باللحظة الإنسانية الراهنة!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى